ها هو شهر رمضان المبارك يظلنا بخيره العميم ويطلب منا أن نغتنمه في عمل الصالحات والتقرب إلى رب العالمين .. ولقد غرس سيدنا رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم) في قلوب أصحابه الكرام, وفي من جاءوا من بعدهم غرس فيهم علو الهمة وقوة العزيمة, وعلّمهم أن يُجددوا نيتهم للعمل الصالح في كل وقت وحين. فعلى المؤمن أن يعوّض ما فاته من فعل الخيرات لأن هناك من الناس: من يتحسّر على ما فاته, ويسرف في ذلك حتى يُضيّع حاضره, ويقطع عليه مستقبله فيأتي عليه زمان يندم على ما فات, مع أن الله تعالى تفضّل عليه وأنعم بأن جعل له عمراً, باقياً بإمكانه أن يستغله في عمل الصالحات, ليعوض ما فاته من تقصير وهذا الأمر يحتاج إلى قوة في العزيمة.
فإن تعويض ما فات لا يكون بالندم فقط, إنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة قادمة, ليتقدم بها خطوة، وهذا دليل على علو الهمّة ولذلك على من أهمل في عمل الصالحات وأمهله الله تعالى فعليه أن يحمد الله على ذلك, وعليه بالمبادرة إلى تعويض ما فاته فكما قالوا: إن أيام العافية غنيمة باردة وأوقات الإمهال فائدة, وليست الساعات بعائدة, ورب العالمين أعطانا نعمة كبيرة وهي أن أدركنا شهر رمضان فهيا إلى العمل الصالح, وفعل الخيرات وترك المنكرات.
فهيا أخي المسلم لنعلوا بهمتنا ونأخذ من وقت شهر رمضان ما ينفعنا في الدنيا والآخرة: فالعاقل حقاً هو من يجدد النية للعمل الصالح, ولا يتكاسل ويستسلم للشيطان، هنا يظهر علو الهمة وقوة العزيمة, التي تجعل صاحبها إن صدق يكون من الأولين ومن المؤمنين الصادقين, في أقوالهم وأفعالهم, وإذا أردنا أن نستشهد على ذلك من أحداث, فسوف نجد ذلك عند أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومنهم: الصحابي الجليل أنس بن النضر ـ رضي الله تعالى عنه، فلقد غاب أنس بن النضر عن غزوة بدر فأحس بألم أنه ضيّع على نفسه فضل من الفضائل الكثيرة فقال: يا رسول الله لقد غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين, لئن أشهدني الله مشهداً آخر, ليرين الله مني ما أصنع. فلما كان يوم غزوة أحد, وانكشف المسلمون أقبل أنس بن النضر, يعتذر إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم), مما صنع أصحابه ويبرأ إلى الله مما صنع المشركون, فتقدّم أنس بن النضر وكسر غمد سيفه ويستقبله الصحابي الجليل سعد بن معاذ ويقول:(الجنة ورب النضر: إني لأجد ريحها من دون أحد, يقول سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع, أي ما استطاع أن يفعل مثله في قتاله وصبره وقوة عزيمته, ولما انتهت المعركة وجدوه قد قُتل ومثًل به المشركون ووجد به بضع وثمانون ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم فما عرفه أحد إلا أخته من أطراف أصابعه) فمن هذا الموقف يتبين لنا: أن هذا الصحابي الجليل قد صدق مع الله تعالى, وعزم عزماً أكيداً على أن ينال إحدى الحسنيين، فمن هذا يتبين لنا أن قوة عزيمة المؤمن في عقيدته وإخلاصه لله رب العالمين، ثم مثال آخر على أن يعوّض المسلم ما فاته في سبيل الله تعالى: ألا وهو عكرمة هذا الصحابي الجليل, الذي أسلم عام فتح مكة المكرمة, بعد أن أسلم وشعر بعظمة الإسلام أحس بما فاته من الخير, فقال:(والذي نجاني يوم بدر يا رسول الله, لا أدع نفقة أنفقتها في الصدّ عن سبيل الله تعالى, إلا أنفقت أضعافها في سبيل الله, ولا قتالاً قاتلته في الصد عن سبيل الله تعالى, إلا قاتلت ضعفه في سبيل الله), ويبرُ قسمه هذا فما خاض المسلمون معركة بعد إسلامه, إلا خاضها معهم, ولا خرجوا إلى مكان إلا كان معهم, وفي يوم معركة اليرموك أقبل عكرمة على القتال إقبال الظامئ على الماء البارد في اليوم القائظ, ولما اشتد الكرب على المسلمين نزل عن جواده وكسر غمد سيفه, ودخل في صفوف الروم, وهنا يقول له خالد بن الوليد: لا تفعل يا عكرمة إن قتلك سيكون شديداً على المسلمين, فقال له عكرمة: إليك عني يا خالد, لقد كان لك مع رسول الله سابقة أما أنا وأبي أبو جهل فقد كنا أشد الناس, على رسول الله (صلى الله عليه وسلم), ثم أفر اليوم من الروم؟ والله لا يكون أبداً ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فبايعه أربعمائة من المجاهدين في سبيل الله تعالى, فقاتلوا حتى نصر الله المسلمين نصراً مؤزراً ولقي الله تعالى, وهو مثخنُ بالجراح وكأن لسان حاله يقول:(وعجلت إليك ربي لترضى) فرضي الله عنه وأرضاه هذا الصحابي الجليل الذي جاهد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا, وهكذا حال كل المسلمين لابد أن يكون هدفهم الأسمى محبة الله ورسوله, وهذا يتطلب قوة في العزيمة وصبر وثبات على الإسلام الحقيقي, فعلينا ونحن في شهر الصوم بمجاهدة النفس لكي نصل بها, إلى الغاية العظمى, ألا وهي دخول الجنة إن شاء الله رب العالمين,وعلينا أن نلبي ندا المنادي: يا باغي الخير أقبل, فهيا بنا لنقبل على الله تعالى بالطاعة وعمل الصالحات كل فرد حسب استطاعته ونقصر عن الشر (ويا باغي الشر أقصر) وليعلم الجميع أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً: اللهم يا رب العالمين اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت ,وتولنا فيمن توليت, وبارك لنا فيما أعطيت وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ووفقنا لما تحبه وترضاه يارب العالمين اللهم آمين.

إبراهيم السيد العربي
إمام وخطيب جامع الشريشة / سوق مطرح