ناصر بن محمد الزيدي:
الحمـد لله والصـلاة والسلام عـلى سـيـد خـلـق الله وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه وعـلى مـن تبعهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبعــد:
فـقــد ذكـر المفـسـرون أقـوالا كـثـيرة في الـمـراد بالأمانة: فـقـيـل الأمـانة هي المحافـظـة عـلى الصـلـوات وأداء الـزكاة والصـوم وحـج بـيـت الله الحـرام لـمـن اسـتـطـاع إلـيه ســبـيـلا، وقـيـل الأمـانة هي أمانات الناس، أي ودائعـهـم الـتي يـودعـونها عـنـد غــيرهـم مـن غـير أن يكـون لهـم شـاهـد إلا الله، وأن لا تكـون هـناك وثـيـقة تثـبت الأمانة، وقــيـل أمانة الحـديـث وعـدم الـزيادة عـليه أو نقـصه، وقـيـل أنها صيانة المـرأة لعـرضها، وقـيـل صـيانة الإنسان مـن جـمـيـع النـواحي وعــدم الاعــتـداء عـليه.
وهـذه الأقــوال كلها وأمثالها لا تخـرج عـن كـونها ضـرب أمثـلة فـقـط، وأنواعا لصـور مـن الأمانات الكـثيرة الصـور والأنـواع ، ولعـل ما استحـسنه الإمام الطـبري أقـرب الأقـوال إلى الحـقـيـقـة إذ قال: إن المـراد بالأمانة:(جـمـيـع الأمانات المـوجـودة التي تشـمـل الــدين والـدنيا).
وقـال الله تعـالى:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء ـ 58).
ولا يـؤدي الأمـانـات إلى أهـلها وعـلى وجهـها إلا المنصـفـون، المتـصـفـون بالإيمـان وبالفـضـيلة، الـذين يـراعـون حـقـوق الناس حـق رعـايتها ، وقـيـل في سـبـب نـزول هـذه الآية، أن الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) لما فـتح الله عـليه مـكة المـكـرمة عـام الفـتح سـنة 8 هـ، دعا عـثـمان بن طـلحة ، وكانت بيـده مـفـاتيـح الكـعـبة، فـلما جـاء عـثـمان قال له الـرسـول: اعـطـني المفـاتيـح فـتمنـع عـثمان وتلـكأ، فـلما أراد عـثـمان أن يسـلم مفـاتـيح الكعـبة إلى رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم)، قال له العـباس بن عـبـد المـطـلـب عـم الـرسـول، يا رسـول الله: بأبي أنت وأمي اجـمعـه لي مـع السـقـاية.
خـاف عـثمان بن طـلحة أن تـؤخـذ المفـاتيـح مـنه، فـقـال له الـرسـول ـ عـليه الصلاة والسلام: هـات المفـاتيـح يا عـثـمان فأعـطـاه قـائـلاً: هـاك أمانـة الله، فـقـام الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) وفـتـح باب الـكـعـبة وطهـرها، وصلى ركـعـتين خـفـيفـتين وبعـد ذلك وقـف الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) بـباب الكـعـبة، فـقال: يا معـشـر قـريـش مـا تظـنـون أن فاعـل بـكـم قالوا: أخ كـريـم وابن أخ كـريـم، فـقال: اذهـبـوا فأنتـم الـطـلقاء ألا رجـالا ذكـرهـم بأسـمائهـم ونسـاء ذكـرهـن بأسمائهـن، فـنـزل عـليه قـوله سـبحانه وتعالى:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ..) (النساء ـ 58)، فـدعـا عـثـمان بن طـلحة ورد عـليه المفاتـيح، وقال: خـذ وها خـالدة مخـلـدة لا ينـزعها منكـم إلا ظـالم، وتـلا قـوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ..) ( النساء ـ 58).
ومـما يـدل عـلى جـلالة الأمانة ومـكانتها وعـظـم خـطـرها، أن القـرآن الـكـريــم وصـف رسـول الـرحـمـن جـبريـل عـليه السلام بأنه أمـين قال الله تعـالى:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِين، عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (الشـعـراء 193 ـ 195).
أي: المـؤتمـن عـلى وحي الله، لا يـزيـد فـيه ولا ينقـص مـنه، كـما وصـفه الله بصـفـات زيادة عـلى الأمانة قال الله تعـالى:(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التـكـوير 19 ـ 21).
وقـد أكـد الله في كتابه العـزيـز بأن رسـله الـكـرام يتـصـفـون بالأمانة، قال الله تعـالى عـلى لـسان النبي نـوح، شـيخ المـرسـلين عـليهـم جـمـيعـاً الصـلاة والسـلام:(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعـراء 105 ـ 107) أي: إني رسـول الله إلـيـكـم أمـين فـيما بعـثـني به، أبلـغـكـم رسـالات ربي، ولا أزيـد فـيها شـيئاً ولا أنقـص منها شـيئاً، وكـذلك قال كل مـن الأنبياء: هـود وصالح ولـوط وشـعـيـب ـ عـليهـم وعـلى نبيـنا الصلاة والسلام، فـهـذا النبي هـود، يقـول الله تعـالى:( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشـعـراء 123 ـ 125)، وهـذا النبي صالح يقـول الله تعـالى:(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِين، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشـعـراء 141 ـ 143)، وهـذا النبي لـوط، قال الله تعـالى:(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشـعـراء 160 ـ 162)، وهـذا النبي شـعـيـب ، يقـول الله تعـالى:(كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) (الشعـراء 176 ـ 178).
ووصـفـت ابنـة الـرجـل الصالح مـوسى بالقـوي الأمـين، قال الله تعـالى:(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القـصـص ـ 26).
وأشار القـرآن الكـريم إلى أمانة النبي يـوسـف ـ عـليه السلام، عـلى لسان المـلك الـذي لما تحـقـق مـن صـدقـه وأمانـتـه، باعـتـراف امـرأة العـزيـز عـلى صـدقـه وأمانته أحـب الملـك أن يسـتخـلصه لنفـسه لأمانته، قال الله تعـالى:(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف 54 ـ 55).
وقـد كان الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) الـمـثـل الأعـلى، في فـضـيلة وخـلـق الأمانة، حتى لـقـبـه قـومه بالصادق الأمـين، ومـن الأدلة عـلى ذلك أنهـم لما اخـتـلفـت قـريـش في وضـع الحجـر الأسـود في مـكانه، أثـناء إعـادة بنـاء الـكـعـبة، وقالـوا عـنـد ما راوه: هـذا هـو الصادق الأمـين، لـقـد رضـيناه حـكـما بيـننا، فجـعـلـوه حـكـما بينهـم، وبـذلك حــقـنت دماء كادت أن تـزهـق.
ومـن هـنا كان الـرسـول ـ صـلـوات الله وسلامه عـليه ـ يستعـيـذ مـن الخـيانة وهي ضـد الأمانة، إذ يـقـول الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم):(أعـوذ بـك مـن الخـيانة، فإنها بئس البطانة).
ووصف الله تبارك وتعـالى المـؤمـنين، فـقـال فـيـما وصـفهـم الله به:(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المعارج ـ 32) أي: إذا أتمنـوا لم يخـونـوها وإنـما أدوها إلى أهـلها مهـما كانت، كما أنهـم يحـفـظـون أمانتهـم في دينهـم واعـتقـادهـم وقـولهـم وعـملهـم وسـلـوكهـم مع الناس.
وقـد ركـزت السـنة النبـويـة الشـريفة المطهـرة تـركـيزا ملـفـتا بفـضيلة الأمانة، ورفـعـت مـن شـأنها، فـقال (صلى الله عـليه وسـلم):(الأمـانة غـنى) أي: هي طـريـق الغـنى لأن الإنسان إذا عـرف بين الناس بالأمـانة، أقـبـل الناس عـلى مـعـاملته وأحبـوه فـيصـير ذلـك التعـامـل سـبـبا لـغـناه.
وقال (صلى الله عـليه وسـلم):(أربـعٌ مـن كـن فـيه فـلا عـليه ما فاته مـن الـدنيا: حـفـظ أمانة، وصـدق حـديـث، وحـسـن خـليـقـة، وعـفـة في طعـمة)، فانظــر كـيـف جـعـل فـضـيلة الأمانة أو تـلـك الفـضائـل الأربـع غـنى للإنسان.
.. وللحديث بقية.