يقول الله الخـالـق الـرازق القـادر في كـتابه العــزيـز:{ والسمـاء بنـيناها بأيـد وإنا لمـوسـعـون والأرض فـرشـناها فنعـم الماهدون} (الـذاريات 47/48)، وقال:{ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة} (لـقـمان ـ 28)، فـكيـف تعـجـبـون مـن خـلقـكم الأول، أو مـن خـلـقـكـم الثاني بعـد المـوت والفـناء، فالقادر الـذي خـلـق السماوات والأرض عـلى هـذا النـظـام المحـكـم ولم يتعـب ولم يعـي، هـل يعـجـزه أن يعـيـد خـلـقـكم مـرة ثانية بـعـد مماتكـم، وأنتـم تـرون أن الله تعالى يـبـدئ الخـلـق ثـم يـعـيـده في كل يـوم وتــرون الـدنيا بـين حـياة ومـوت في كل حـين، هـذا يـولـد وذاك يمـوت ، هـذا مـولـود وذلك مـفـقـود.
ذلك هـو المـراد مـن الآية في هـذه السـورة، التي يـدور مـوضـوعـها حـول تحـقـيـق قـضـيتـين اثـنتـين مـن قـضايا العـقـيـدة، وإرسـاء دعـامـتين مـن دعـائم الإيمان وهـما:
1 ــ الإيمان بالله وحـده، الـذي أرسـل رسـلا مـن البـشر، وأنـزل كـتبـا لهـدايتهـم حـتى يـكـون الناس عـلى بـينة مـن الأمـر، ويعـمـلـوا العـمـل الـذي خـلـقـوا مـن أجـله ، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الـذاريات 56 ـ 58)، ومـع كل ذلك فـقـد عـجـب الـكافـرون لما جـاءهـم مـنـذر منهـم، كـما قال الله تعالى: {بـل عـجـبـوا أن جـاءهـم مـنـذر منهـم، فـقال الكـافـرون هـذا شيء عـجـيب} ( ق ـ 2).
2 ــ والإيـمان بالبعـث، لأنهـم عـجـبـوا كـيف يـبعـثـون بعـد المـوت والفـناء، وقالوا منـكـرين:{أإذا مـتنا وكنـا تـرابا (أنـبعـث) ذلك رجـع بعـيـد}، فـلا يـزال الله تعالى يـقـرر هـذه الحـقـيقـة، ويـذكـر الناس بها، وكأنه يـقـول لهـم: ويـلكـم! انظـروا إلى خـلـق السماوات والأرض حـتى تتحـقـقـوا وتـتيـقـنـوا مـن قـدرة الله، عـلما بأن إعـادتكـم بعـد مـوتكـم هـين، وأنـتم تعـلمـون أن خـلـق السماوات والأرض أعـظـم من خـلـكـم، فهـل تـعـبنا مـن خـلـق السمـاوات والأرض، أو مـن خـلـقـكـم أول مـرة، فـنـقـصت قـدرتنا فـلم نـعـد نسـتطـيع أن نخـلـقـكم مـرة أخـرى؟، ومـن ذا الـذي يـزعـم هـذا؟، إن الـدلـيـل عـلى القـدرة والاسـتطاعـة هـو وجـود هـذا الكـون نفـسه ، واستمـرار بـقائه، واطـراد نـظام سـيره.
قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} (ق 39 ـ 40)، رتـب الله تعالى هـذا الكـلام عـلى ما تقـدم مـن أقـول الكـفـرة الباطـلة ، التي لا تسـتـنـد عـلى أي شـيء من الحـجة والسـلطان، فإن هـو إلا ضـلال، بـل هـو ضـلال بعـيـد، تـرى لما ذا أمـر الله تعالى نبيه بالصبر عـلى ما يـقـولون؟.
ذلك لأنهـم لـم يـطـلـقـوا ألسنتهـم بالتكـذيـب فـقـط ، بقـولهم: إنه لا بعـث بعـد المـوت، بـل أطـلـقـوها بالسخـرية والاستهـزاء بالنبي صلى الله عـليه وسـلم الـذي يخـبرهـم ويحـذرهـم مـنه، ولا أدل عـلى هـذا من القـرآن الكـريـم، الـذي ذكـر لنا في كـثـير من آياته أن الكـفار يستهـزئـون بالنبي (صلى الله عـليه وسـلم) ويـعـيـرونه بعـبارات سـاخـرة، مـثـل قـولهـم:(مجـنـون وسـاحـر كاهـن وشـاعـر).
يقول الله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} (سـبأ 7 ـ 8) ، فـتأمـلـوا هـذه الآية جـيـدا لـتتصـوروا مـبـلغ هـذا الاستهـزاء وهـذه السـخـرية، إنه لاسـتهـزاء عـجـيـب في بابه بالنبي (صلى الله عـليه وسـلم) عـلى جـلالة قـدره، وعـظـم شـأنه وأصالة نسبه، وأمانته وصـدقـه، إنه مـن قـريـش ذؤابـة العـرب، ومـن بني هاشـم ذؤابة قـريـش، فـذؤابة قـريـش هـو النبي (صلى الله عـليه وسلم) الملـقـب عـنـدهم بالصادق الأمـين، هـذا الـذي يـقـولـون فـيه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (سـبأ ـ 7)، والتعـبير بـقـولهـم:{ هـل نـدلـكم }،وقـولهـم:{ عـلى رجـل } فـيه سـخـرية لاذعـة بشـخـص النبي (صلى الله عـليه وسـلم) وتحـقـير مـن شـأنه، يعـني تعـالـوا نـريكـم رجـلا يقول إذا مـتـم وفـنـيتم في الأرض سـتبعـثون من جـديـد، أتـرونه يكـذب عـلى الله، أم تـرونه به مـس من الجـن؟، فـتـصـوروا مـقـدار هـذا الاسـتـهـزاء كما شـئتم، فـقـد صـوره الله تعالى في آيات كـثـيرة مـن القـرآن الكريم.
يقول الله تعالى:{وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} (الأنبياء ـ 36)، إذا رأوك فإنهـم يستهـزئون بـك ويـقـولـون : أهـذا الـذي يـقـول:إن آلهـتكـم باطـلة ويـقـول: إنـكم سـتبعـثـون بعـد مـوتـكـم، وستحـاسـبـون عـلى أعـمالـكم؟ ، وهـم يفـعـلـون هـذا كلما مـر عـليهم النبي (صلى الله عـليه وسـلم) يمـطـون شـفاههـم، ويغـمـزون بعـيـونهـم ، ويشـيرون بأصابعهـم.
ويـقـول الله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفـرقان 41 ـ 42)، يعـني: ألم يجـد الله من يـبعـث رسـولا إلا هـذا؟! حقا إنها لسخرية لاذعة، بادية مـن خـلال هـذه الآيات! وكأننا نـرى وجـوه أولـئـك الـقـوم، عـيـونهـم تغـمـز، وشـفـاهـهـم تمـط، وأصابعهـم تشـير، وهـم يتضاحـكـون ويخـاطـب بعـضهـم بعـضا ، ولنـكـتة لـطـيـفة لم يـقـولـوا: أهـذا الـذي يـذكـر ألـهـتنا ، وإنما قالـوا:{أهـذا الـذي يـذكـر آلهـتكـم } وفي هـذا اسـتثارة لأقـوامهـم، يعـني هـذه آلهـتـكـم التي عـبـدها آباؤكـم قـبلـكم، وورثـتـمـوها عـنهـم، كـيـف يـذكـرهـا هـذا بالعـيـب ويـقـول فـيها : إنها باطـلة لا حـقـيقـة لها ، وإنها لا تضـر ولا تنـفـع، لـقـد كاد أن يضـلنا عـن عـبادة آلـهـتـنا لـو لا أن تمسـكنا بها.
وهـكـذا صاروا يفـخـرون ويعـتزون بأنهـم متمـسكـون بآلهـتهـم بالرغـم مـن هـذا، كـذلك شـأن المبطـلـين إذا دعـوا إلى الحـق يتمـسكـون بباطـلهـم، ويـوصي بعـضهـم بعـضا بالتمسـك به، والالـتزام بما هـم عـليه، ويسـخـرون من الـذين يـعـظـونهـم.
إن هـذا الاسـتهـزاء يحـزن النبي صلى الله عـليه وسـلم ، لأنه أسـلـوب يـؤثـر في عـامة الناس، في النساء والصـغـار والكـبار والعـبيـد، والعـامة تابعـة للـسادة والـرؤسـاء، ويـقـولـون: لـو كان هـذا الـدين حـقا لأدركـه واتبعـه رؤسـاؤنا وسـادتنا، والسادة يـقـولـون: لـو كان هـذا حـقا لأدركـناه نحـن، ولما ســقـنا إليه العـبيـد والإماء والصبيان والفـقـراء، كما قال لله تعالى عـنهـم: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (الأحـقاف ـ 11)، فـهـم يسخـرون مـن المسلمين المستضـعـفـين ويـقـولـون لهـم:
لـو كان هـذا الأمـر حـقـا لـكنا نحـن أحـق بأن نفهـمه ونسـبـق إليه، لأننا أكـبر عـقـولا وأكـثر إدراكا، لا أن يـفـوتنا إليه أولـئـك الفـقـراء والعـبيـد، ولما كان السابقـون إليه أولـئك المستـضعـفـون فهـو إذن: باطـل، ولـكـن الله تعالى قال:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ }(الأحـقاف ـ 11) لما لم يهـتـدوا إلى هـذا الحـق راحـوا يـقـولـون: هـذا إفــك قـديـم وسحـر وجـنـون وأساطـير الأولـين، إلى غـير ذلك مما يـقـوله الـكفار مـن عـبارات الاسـتهـزاء، وذلك بعـد إنـكار الـرسالة وإنـكار البعــث،وإنكار وجـوب إخـلاص العـبادة له وحـده، كـل هـذا الإنـكار يضاف إلى جـملة اسـتهـزائهـم وسـخـريـتهـم بالنبي (صلى الله عـليه وسـلم).
هـذا الـذي شـق عـلى النبي (صلى الله عـليه وسـلم) وضاق به صـدره ذرعـا، وحـق له ذلـك باعـتبار عـلـو مـقامه وسـمـو دعـوته، يحـزنه الـذي يـقـوله الكـفار المـكـذبـون في حـقـه، وفـي ما جـاء به مـن الله، وبالتالي هـو تـكـذيب بآيات الله تعالى وجـحـود، لأن الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) يـدعـو إلى الله تعالى ويخـاف أن يـكـون مقـصـرا، كما قال الله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام ـ 33)، إنهـم في داخـل قـلـوبهـم يعـلمـون أنـك صـادق .. وإنـك غـير كـذاب، ما كـذبت عـلى بشـر قـط فـكـيف تـكـذب عـلى الله؟!
.. وللحـديث بقـية إن شـاء الله.
ناصر بن محمد الزيدي