[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” كل من يقرأ تاريخ العقل العربي منذ انتشار الرسالة الإسلامية إلى اليوم، يقف حائرا حسيرا أمام النكبة التي أصابته والانحدار الذي اعتراه. هذا العقل الذي قدم للإنسانية علوم الرياضيات والفلك والجغرافيا والجبر والطبيعة وأسس لها علم الاجتماع وفلسفة التاريخ وأبدع الأدب والفنون وعرف كيف ينقل عن الثقافات المختلفة ويضيف إليها دون عقدة أو انغلاق.”
ــــــــــــــــــــــــــــ

هل نسي العرب الذكرى التاسعة والأربعين لحرب الخامس من يونيو – 1967 وهم يعانون مصائبهم الجديدة في الفلوجة وفي حلب وفي الرقة وفي تعز وفي سيرت وآخرها في إدلب حيث استشهد أطفال و نساء بقصف روسي نفته روسيا يوم الثلاثاء الماضي. فمر العرب على الذكرى مرور الكرام كأنما أصيبوا بفقدان الذاكرة و فضلوا دفن رؤوسهم في رمال التاريخ ومحو تلك الذكرى تماما بينما يقتضي وضعنا العربي الراهن أن نستخلص العبرة من هزيمة جيل كامل حكمته أيديولوجيات دخيلة! كنا في الخامس من يونيو 1967 في العشرين من أعمارنا الغضة نحلم باستعادة أمجاد الأمة وربما كنا نصدق أحمد سعيد وهو يصرخ في إذاعة صوت العرب بأن موعد الجيوش العربية هو في تل أبيب و كنا نسمع إذاعة البي بي سي تقول ليلة الرابع من يونيو بأنه على الجانب الإسرائيلي لا شيء يوحي بالحرب أما على الجبهات العربية فالأناشيد الحماسية تشيد بالنشامى وكان المشير الركن المهيب يتجول بين صفوف العسكر وصدره مزين بالأوسمة الملونة والنياشين اللماعة! و كانت ذكرى مصرع ملك العراق فيصل ورئيس حكومته نوري السعيد ووزرائه وأفراد عائلاتهم حاضرة بعد في الأذهان وعلى إثرها سالت دماء اللواء الرئيس عبد الكريم قاسم نفس العسكري الذي قتلهم وسحلهم في شوارع بغداد وما تزال سوريا آنذاك تعج بالمساجين من رؤساء وسياسيين ومثقفين ولا تقدر على حشد الجيوش أو تحقيق النصر ومصر كانت تحت وطأة الصراع الدموي بين عبد الناصر والإخوان المسلمين حيث وصلت المحنة إلى إعدام المفكر سيد قطب في أغسطس 1966. كان الشعب العربي في الشهر السادس من سنة 1967 يحاول الخروج من نير الإستعمار والتخلف وكانت الجماهير العربية ترجو من حكامها تحمل أمانة نصرة فلسطين ولكن الهزيمة كانت في جينات تلك الأنظمة ! لم تدرك النخب الحاكمة حينئذ أن ماهو مطلوب من الدول ليس سوى تشريك الناس في سن الخيارات و توفير الحريات العامة لمنع الاستبداد والفساد ثم التعامل مع العصر بأدوات العصر أي بالمنطق ومراعاة الواقع واحترام الاختلاف وكسب الرأي العام العالمي باحترام القانون الدولي. فكانت كارثة الهزيمة التي سميناها نكسة مبرمجة في سياق التاريخ. ما نزال نأمل أن يعود للعقل العربي وعيه الغائب ونتفاءل ونتوقع نهضة الأمة بفضل انتصار التأصيل على الاستئصال، بعد أن عشنا أعمارنا (من أجل هذه اللحظة التاريخية) كما قال قائل من تونس سنة 2011 وننتظر بزوغ هذه الشمس الساطعة الغراء وانبلاج هذا الفجر المقدس.
وبالرغم من الدروس القاسية التي ألقاها علينا التاريخ منذ 1967 و تفجيرات العنف التي تعصف بدول الشرق الأوسط تقتل العرب الأبرياء، فإننا نعيش مرحلة مخاض عسيرة أحد مؤشراتها أن أعدادا كبيرة من شبابنا العربي يختار اليوم بين أن يركب زوارق الموت الصغيرة التي تحمل زهرات شبابنا عبر البحر الأبيض المتوسط ليلتحقوا بسواحل أوروبا حاملين شهادات لم تنفعهم في أوطانهم، أو السفر إلى ليبيا أو العراق أو سوريا للانضمام للجماعات المسلحة وبالرغم من أننا كنا منذ عقود نقرأ إحصاءات الأمية المتفشية في البلدان العربية في تقرير منظمة الأمم المتحدة ، أو نسمع زعماء العالم الأقوياء يتوعدوننا بالويل والثبور وعظائم الأمور اذا لم نصلح تعليمنا ونغير خرائطنا ونحرر مجتمعاتنا، فان أول ما كنا نفكر فيه هو أن العقل العربي مني بهزيمة نكراء أو للتفاؤل لنقل نكسة كما فعلنا مع الخامس من يونيو 1967.
كل من يقرأ تاريخ العقل العربي منذ انتشار الرسالة الإسلامية إلى اليوم، يقف حائرا حسيرا أمام النكبة التي أصابته والانحدار الذي اعتراه. هذا العقل الذي قدم للإنسانية علوم الرياضيات والفلك والجغرافيا والجبر والطبيعة وأسس لها علم الاجتماع وفلسفة التاريخ وأبدع الأدب والفنون وعرف كيف ينقل عن الثقافات المختلفة ويضيف إليها دون عقدة أو انغلاق. كيف تقهقر إلى الوراء و تجمدت أطرافه وتصلبت شرايينه ولحقه عفاء الزمن؟ إنها ظاهرة خطيرة أن يتقلص العقل العربي إلى دور التقليد بعد مجد الإبداع وأن يقتصر على التبرير عوض التفكير و أن تجف منابع الاجتهاد ليتحول العرب إلى ببغاوات التقليد والتكرير و إعادة إنتاج ثقافات الأمم الأخرى في عالم لا مكان فيه إلا للمبدعين ولا مستقبل فيه إلا للمبتكرين!
أين انتفاضة أبي ذر الغفاري وثورة ابن المقفع وحيرة أبي العلاء المعري واجتهاد ابن رشد وإبحار الجاحظ في العلوم الطبيعية وقانون الطب الذي وضعه للإنسانية الرئيس ابن سينا وترجمات بيت الحكمة والمدينة الفاضلة لأبي نصر الفارابي والتحليل العميق للمجتمعات الإنسانية الذي قام به العلامة ابن خلدون؟ بل أين نحن من اكتشافات ابن النفيس وطبائع الاستبداد للكواكبي وأقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك للوزير خير الدين التونسي وتخليص الإبريز لرفاعة الطهطاوي وقواعد الوحدة الإسلامية لجمال الدين الأفغاني؟ لا شك في أن العقل العربي تخلف وارتد عن هؤلاء العمالقة الرواد، ولا مجال البتة لمقارنة مجد العقل العربي الزاهر بحالته الراهنة الكاسدة التي طالت إلى يوم أصبحنا نجني فيه الثمرات المرة المسمومة للصراعات الطائفية والقبلية والعشائرية والدينية! فالمقارنة كادت أن تؤدي بنا إلى الإحباط و اليأس والقنوط. وطالما كنا نتطارح ونتناقش حول الأسباب المختلفة التي أطاحـت بقـلاع العقل العربي و دمرت حصونه و طالما تواصينا بأفضـل الحـلول وأنجـع العلاجـات للخروج من عصر الظلمات الذي أناخ بكلكله على العالــم العربــي منـذ أن استقلت شعوبنا وأقامت دولا وأعلنت جمهوريات وحتى جماهيريات ورفعت عقيرتها بالشعارات وتخيلت الثورات وتعاقبت فيها الانقلابات و تمت القطيعة الكاملة بين أصحاب الأمر وأصحاب الفكر. كأننا أعجاز النخل الخاوية التي ذكرها رب العالمين في القرآن. والغريب أن هزيمة العقل العربي تواصلت حثيثة في عالم استيقظ منذ عقود على نداء العولمة ووحدة المصير ونكاد نحن العرب نطرد أنفسنا طردا من دائرة التاريخ.