[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]

” في الشوارع الداخلية للمحمية الطبيعية في (بونشاك) كان السائق الاندونيسي المسلم الذي أطلقنا عليه اسم (سوهارتو) بسبب الشبه الكبير بينه وبين رئيس بلاده السابق واعتماره للكوفية الاندونيسية التقليدية ... ينقلنا من جزء إلى آخر في محمية الحيوانات الواسعة ذات الغابات والاشجار الكثيفة والانهار والجداول المتدفقة والطيور المغردة والرذاذ المتقطع...”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثالثا : الوصف العام للزيارة
بونشاك : مثال للسياحة العربية
يمكن أن نطلق على منطقة (بونشاك) ذات الكثافة المسلمة والتي يتوزع نشاطها التجاري والسياحي والسكني على سفوح وقمم الجبال الخضراء والأراضي الزراعية الشاسعة ،بأنها مصيف سكان جاكرتا نظرا لطقسها المعتدل وهوائها العليل ،لذلك تشهد حركة سياحية كبيرة في الاجازة الأسبوعية من مساء السبت ،ما يستدعي إغلاق الخط المتجه من جاكرتا إلى (بونشاك) مساء الأحد لدعم الخط المعاكس الذي يشهد ازدحاما منقطع النظير وهو ما صادف فترة توجهنا إليها ،ما اضطر السائق إلى أخذ طريق فرعي بديل بين القرى الجميلة والطبيعة الخلابة والجداول المنسابة من الجبال إلى السهل ،وهو طريق ضيق ومتعب ويستدعي منه التوقف كثيرا للسماح للصف الطويل من السيارات في الخط المعاكس للمرور أو بسبب ازدحام خط مسارنا .في طريقنا وعلى مدى عشرات الكيلو مترات كان عدد من الفتية يقفون على مداخل ومخارج القرى التي يسكنونها ينظمون حركة السير مقابل مبالغ هزيلة يدفعها اصحاب السيارات الذين ينتهكون خصوصية قراهم ومساكنهم اضطرارا ... وقدرت ان تلك المبالغ توظف لتنمية مجتمعات تلك القرى ... بعد أكثر من ثلاث ساعات من الارهاق تأكد لي اقترابنا من مركز (بونشاك) ومناطقها الرئيسية على ضوء اصطفاف عشرات المحلات التي عرضت تجاريا بأسماء ومصطلحات عربية ورمزت إلى مناطق ودلالات ثقافية خليجية...مطاعم...فلل...متاجر بخور وعطور العود...مصارف...محلات حلاقة خاصة بالخليجيين - هكذا طبعت في لوحة المحل – تيوس وأغنام مع خاصية الذبح والشوي...الخ ، وكثيرا ما كنا نعلق ونضحك على اللغة العربية المكسرة التي ظهرت في بعض الاعلانات مستذكرين قول المتنبي (مَغَاني الشِّعْبِ طِيباً في المَغَاني * بمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِ * وَلَكِنّ الفَتى العَرَبيّ فِيهَا غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ) . بعد ثلاثة أيام قضيناها في (بونشاك) اكتشفنا بأن المنطقة مصنفة ومهيأة كمصيف أساسي للخليجيين الذين يأتونها من كل دول المنطقة أسرا وعزابا لأهداف وغايات شتى : الاستجمام والاسترخاء في منطقة ريفية زراعية باردة - السياحة - الاستكشاف - قضاء شهر العسل للعرسان – أخيرا وهو العامل الأهم والأبرز من أجل اختيار عروس جميلة صغيرة السن، اخبار زيجة اندونيسية بعربي سمعناها من موظفي الفندق الذي سكنا فيه ،والذي شهد المناسبة والمراسم ، العروض التي قدمت لنا كذلك تعطي مؤشرات على أن بعض الخليجيين يجدون هنا فرصا لزواج يؤطرونه، أو يؤطر بغرض الترويج والاستثمار وتنشيط المنطقة سياحيا وجذب العرب والخليجيين خاصة بأطر شرعية متعددة لا ابيح لنفسي أن أدلي فيها برأي ما دامت خارج الإطار القانوني العلني ، وتفاصيلها غير معروفة وآطرها ودلالاتها الشرعية مجهولة لدي، ما تأكد لدي من خلال عشرات الأسئلة التي طرحتها أن العروض تمتد من ليلة إلى ما شاء الله ولكل سعره وثمنه والتي تطال سن الفتاة وأشياء أخرى تتعلق بها، ويصاحب مراسم الزواج بعد المفاوضات والاتفاق مأذون وعقد مبرم ينتهي بانتهاء المدة .
حديقة الزهور البديعة في تصميمها وتقسيماتها وألوان وانواع اشجارها المتناسقة وما تتمتع به من جمال ،تعد واحدة من معالم (بونشاك) المصنفة ضمن السياحة الزراعية التي افتتحها رسميا رئيس الجمهورية في 1995 ،وتقع على أرض تبلغ مساحتها 35 هكتارا وتنقسم إلى عدد من الحدائق التي ترمز إلى شعوب وثقافات عالمية إلى جانب انتمائها بالطبع إلى المناطق والثقافة الإندونيسية المتنوعة، حدائق ( النخيل – بالي - أميركا – فرنسا – اليابان ...) وتحتوي على حدائق مائية وأحواض للإوز وبيوت زجاجية وعوالم وزوايا جمالية متكاملة، ومطاعم وملاعب للأسرة وأماكن ترفيهية وخدمات نقل متعددة...أخذنا جولة في أنحاء الحديقة وشاهدنا العديد من العرسان الاندونيسيين وهم ينتقون المواقع الخلابة لالتقاط عشرات الصور بعدسة مصورين محترفين استثمروا الموقع ومهاراتهم لاكتساب الرزق ،فالمواقع السياحية في اندونيسيا تقدم فرص عمل ومجالات استثمارية واسعة للمواطنين ... ما تبقى من يومنا استثمرناه بأخذ جولة في مزارع الشاي التي انبسطت على مد البصر عبر المدرجات الجبلية فسلب مشهدها الآسر الفؤاد ... وفي هذه المنطقة استثمرت سياحة الطيران الشراعي أو ما يسمى ب(البرشوت) التي تنقل السياح من الجبل إلى السهل للاستمتاع بمناظر مزارع الشاي ورؤية المزارعين وهم يعملون في حقوله ،وتنتشر المقاهي التي تقدم انتاج مزارعه بأنواعه الأحمر والأخضر والأبيض ولأول مرة اسمع عن هذا الأخير واحتسي أكوابه هنا في (بونشاك) التي تكتسي جبالها بالضباب وتفترش أراضيها وسهولها مزارع الأرز والشاي وأشجار الموز والذرة والفواكه والخضار بأنواعها ولا تتعدى درجة حرارة طقسها ال 24 درجة مئوية ما يجعلها بحق منطقة جاذبة للسياح فيما يتعلق بالطبيعة ... ما يعكر صفو السياحة فيها : الأعداد الكبيرة من المتسولين خاصة الأطفال وما يسببونه من ازعاج – استغلال السائح العربي ورفع الأسعار في المحلات التجارية والمطاعم والمرافق الأخرى _ انتشار ثقافة الجنس والتي ارتبطت للأسف كذلك بالسياح الخليجيين – افتقار المنطقة إلى النظافة والاناقة وإلى الطرق والبنية التحتية التي تخدم السياح ،والفنادق
ما تزال دون المستوى وتحتاج إلى المزيد من العمل والجهد. والفوارق كبيرة جدا بين (بالي) التي تعد مركزا للسياحة الأوروبية وبالأخص الاستراليين باعتبارها أقرب منطقة إلى استراليا، وبين (بونشاك) مصيف الخليجيين الذين تملكوا الكثير من العقارات وبالأخص الفلل السكنية التي يقيمون فيها أو يستفيدون من إيجاراتها لغيرهم من السياح.
في الشوارع الداخلية للمحمية الطبيعية في (بونشاك) كان السائق الاندونيسي المسلم الذي أطلقنا عليه اسم (سوهارتو) بسبب الشبه الكبير بينه وبين رئيس بلاده السابق واعتماره للكوفية الاندونيسية التقليدية ... ينقلنا من جزء إلى آخر في محمية الحيوانات الواسعة ذات الغابات والاشجار الكثيفة والانهار والجداول المتدفقة والطيور المغردة والرذاذ المتقطع ...(ينقلنا) بين الفيلة والخراتيت والأسود والنمور والغزلان وحمار الوحش والزراف وفرس النهر والتماسيح وعشرات الأنواع الأخرى التي كان بعض الزملاء في السيارة يقدمون لها الجزر والموز لإنجاح صيد الكاميرا والتقاط صور فريدة توثق ليوم مهم من حياتهم مع التأكيد على أن المقصد إطعام الحيوانات الأليفة وليست المفترسة التي ما أن يتقدم أحدها من سيارتنا حتى تغلق النوافذ ويتحرك السائق بعيدا عن مكمن الخطر ...المحمية تنقسم إلى أقسام متعددة فإلى جانب قسم الحيوانات النادرة التي تنتمي إلى مختلف دول العالم يوجد قسم للطيور وآخر للكائنات البحرية ومدينة العاب ومنتزهات ومطاعم ومقاه راقية وبرامج تعليمية للزوار وطلبة المدارس والجامعات ووسائل نقل متعددة ... إنها بحق واحدة من أهم المعالم السياحية في هذا البلد الإسلامي الكبير الذي تعرض لعقود من الزمن لأبشع طرق الاستعمار من دول عظمى مختلفة ومع ذلك نهض بقوة فأزدهر اقتصاده وتعددت موارده واستثمرت امكاناته ونمت قوته وشهد تقدما في مختلف المجالات بالعمل والتصميم والعلم رغم التحديات الكبيرة وفي مقدمتها عدد السكان الذي تجاوز ال 260 مليون نسبة ولم يبق أسيرا للاستعمار يلقي باللوم على مؤامراته ودسائسه ويواصل حياته يبكي على اللبن المسكوب كما يقول المثل العربي مثلما يحدث عندنا في عالمنا العربي المأسوف على أوضاعه وما آل إليه امره ...الغابات والانهار والشلالات والمعالم الطبيعية ومزارع الارز والشاي وغيرها مستغلة هنا في اندونيسيا أفضل استغلال لتعزيز السياحة وتنمية الموارد الاقتصادية وفي مقدمتها الصناعات بأنواعها ،فتنتشر مصانع الخشب والجلود والصناعات الحرفية في جميع شوارع وأزقة المدن الأندونيسية الذين تبدع أناملهم وبفضل مهاراتهم عشرات الأشكال من الأبواب المزخرفة والنوافذ والكماليات والأثاث والتماثيل والمزهريات وحقائب اليد والأحذية والسلال ...محدثة نشاطا اقتصاديا متنوعا ،فيتوالد من كل نشاط اقتصادي رئيسي عشرات الأنشطة الأخرى التابعة والمكملة والمعتمدة عليه ،والتي كذلك توفر فرص عمل متعددة في تخصصاتها ومهنها ومستوياتها تسهم في تحريك وتنمية
القطاعات الاقتصادية من جانب ومعالجة مشكلة البطالة وتقليل نسبها من جانب آخر ... في تعبير دقيق عن السياسات المتطورة التي يقوم عليها الاقتصاد في العصر الحديث ،إنها أمة يفترض أن نتعلم من تحدياتها وامكاناتها وما حققته من إنجازات كبيرة وان نستلهم دروسها في معالجة اوضاعنا الاقتصادية بالأخص .البنايات الشاهقة والمجمعات السكنية العملاقة والمراكز التجارية المتطورة التي ظهرت معالمها تباعا في طريقنا من (بونشاك) إلى (جاكرتا) أكدت على أننا مقدمون على عاصمة دولة لها شأن في مجال التقدم والتطور والإرث التاريخي والجذب السياحي تنافس بها أكبر عواصم العالم .وهو ما سوف نعرض له بالتفصيل في المقال الخامس والأخير من هذه السلسلة.
• استدراك: وقع خطأ في ترقيم حلقات هذه السلسلة في الحلقات السابقة والصحيح أنها 5 حلقات وليس 3