هناك من المسلمين من يقدم غير المسلمين على إخوانه المسلمين لاختلافهم معه في بعض المسائل، فهو يرى أن من خالفه من المسلمين هو أشد وطأة عليه، وأبعد عن الحق، وأسوأ مصيرًا في الآخرة من المشركين واليهود والنصارى، وقد وصل به الحال أن يقف مع اليهود والنصارى في حربهم للمسلمين، وهذه مصيبة كبرى، وكارثة عظمى، تدل على انحراف في العقيدة، وفساد في الإيمان، وضلال في التصور، وعمى في الإدراك، فالله تعالى يقول:(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء يعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) (المائدة51 ـ 52)، ويقول تعالى:(وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّـهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّـهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِير) (البقرة ـ 120).
وفي مجال الدعوة هناك من المسلمين من يقدم الظنيات على القطعيات، والجزئيات على الكليات، والفروع على الأصول، والمتشابه على المحكم، والمختلف فيه على المتفق عليه، والسنن على الفرائض، والنوافل على الواجبات، وهذا ليس من فقه الدعوة في شيء لأنه منهج يفتقر إلى العلم والبصيرة، فالله تعالى يقول:(قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف ـ 108).
وهناك من المسلمين من لا يعرف في دعوتهم إلا الشدة والغلظة والفظاظة، والتراشق بالتُهم والتنابز بالألقاب، وليس في قاموس مفرداته إلا التكفير والتفسيق، والتبديع والتضليل، والشتم والسب واللعن، فكل من يخالفه ولو في أقل المسائل الفرعية الجزئية يوجه له هذه السهام الموبوءة، وهذا ليس من خُلق المسلم، ولا من طبع المؤمن، بل هو أسلوب منفرٌ فطرةً، ومحرمٌ شرعًا، هو منهج بغيض كريه؛ ترفضه الفطرة الإنسانية، وتحرمه الشريعة الإسلامية، وتتوعد عيه، أي تتوعد من يتخلق به بالوعيد الشديد والعذاب الأليم.
وهم بهذا المنهج المعوج والمسلك المشين يخالفون منهج القرآن القويم، في الدعوة إلى الله تعالى، مع أنهم يحفظون الآيات الكريمة المصرحة بهذا المنهج القويم، لكنهم يخالفونها في واقعهم الدعوى، ومن تلكم الآيات، قول الله تعالى:(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل ـ 125)، وقوله تعالى:(مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّـهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت 33 ـ 34)، وقوله تعالى:(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران ـ 159).
ولا ريب أن الذين لا يعملون بالقرآن، يكون القرآن حجة عليهم، يقول الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) (الصف 2 ـ 3)، وقد ضرب الله تعالى بهؤلاء مثل الحمار الذي يحمل الكتب، ولا ينتفع بما فيها من علم، بل يحمل ثقلها، يقول تعالى: يقول الله تعالى عنهم:(مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) (الجمعة ـ 5).
وقد مثل النبي (صلى الله عليه وسلم) بالمؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة، وبالمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل يه كالتمرة، ويمثل بالمنافق الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به كالريحانة، ويمثل بالمنافق الذي لا يقرأ القرآن ولا يعمل به كالحنظلة، فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرّ) ـ رواه البخاري ومسلم.
وقد جاء في الجامع الصحيح للإمام الربيع ـ رحمه الله تعالى ـ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(ألا أخبركم بأول الناس في النار) قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: (فاسق قرأ كتاب الله ولم يرع منه شيئًا) "رقم الحديث: 965"، ومعنى قوله (لم يرع منه شيئًا) أي: لم يخف والمعنى أنه لم يخف شيئًا من العقوبات المذكورة في القرآن، ولم يزدجر بشيء من زواجره، وهذا يعني عدم العمل بالقرآن الكريم.
وذكر الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) قولاً معناه صحيح نصه:(رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه) وهذه ليس حديثًا نبويًا كما يعتقد البعض، بل هو قول ينسب إلى أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ وفي نسيته إلى أنس بن مالك نظر ومقال.
.. وللحديث بقية.