إبراهيم خليل الرحمن (1)
في مدينة بابل بالعراق عاش رجل اسمه )آزر( كان يصنع التماثيل ويبيعها في السوق .. ربح )آزر( من تجارته ربحاً وفيراً لأن قومه اتخذوا من تلك التماثيل آلهة يعبدونها من دون الله.
حمل الرجل الأصنام التي صنعها وانطلق إلى السوق مبكراً وهو يفكر في أمر زوجته التي اقترب ميعاد وضعها وتمنى أن تلد له طفلاً جميلاً يعلمه صنعته ويعاونه في تجارته.
وصل (آزر) إلى السوق ورص بضاعته فتوافد الناس من كل جهة، واشتروا الكثير من الأصنام.
عاد (آزر) إلى بيته فوجد زوجته قد وضعت طفلاً رائع الحسن .. أشرق وجه الرجل من الفرح وقبل ابنه وأسماه إبراهيم .. أحب (آزر) ابنه حبّاً شديداً وتعلق به فكان يأخذه معه أينما ذهب.
ولما كبر إبراهيم ورأى والده ينحت حجراً ويصنع منه صنماً تساءل متعجباً: لماذا يصنع أبي تلك التماثيل؟.
انتهى (آزر) من صنع الصنم وقال لابنه: غداً أذهب إلى السوق وأبيع هذه الآلهة.
تعجب إبراهيم بشدة لأن أباه يطلق على التماثيل التي نحتها بيديه آلهة، وتعجب أكثر حين رأى الناس يتزاحمون على بضاعة أبيه ويتهافتون على شرائها، ورأى بعضهم يضعون تلك الأصنام في بيوتهم ويقفون أمامها خاشعين ويتوسلون إليها ثم يسجدون لها، وبعضهم يضعون أمامها الأطعمة والأشربة لعدة ساعات ثم يأخذونها وقد ظنوا أن الآلهة باركتها.
وتعجب إبراهيم حين رأى قومه يدعون الأصنام ويطلبون حمايتها وهي أحجار عاجزة لا تنفع ولا تضر.
أوحى الله إلى إبراهيم ـ عليه السلام ـ واختاره نبياً وأمره أن يدعو قومه إلى الإيمان بالله وينهاهم عن عبادة الأصنام.
أسرع إبراهيم إلى أبيه وأخبره أن الله هداه ووهبه العلم وطلب من والده أن يؤمن بالله وأن يهجر عبادة الأصنام.
قال إبراهيم ـ عليه السلام:(.. يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا، يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (مريم 42 ـ 43).
صاح آزر قائلا: إنه دين آبائك وأجدادك.
بيَّن إبراهيم ـ عليه السلام ـ لأبيه أن الشيطان هو الذي وسوس لأجداده وجعلهم يتخذون الأصنام آلهة من دون الله، وأخبره أن الذي يعبد الأصنام كأنه يعبد الشيطان فقال له:(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا) (مريم ـ 44).
غضب (آزر) من حديث ابنه وطلب من أن يكف عن حديثه وألا يردده حتى لا تغضب عليه الآلهة.
حذر إبراهيم ـ عليه السلام ـ أباه من عذاب يوم القيامة إن لم يؤمن بالله ويهجرعبادة الأصنام فقال له:(يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) (مريم ـ 45)
لم يستجب (آزر) لدعوة نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ وغضب منه وخاصمه وهدده بالرجم فقال له:(.. لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (مريم ـ 46).
تألم إبراهيم عليه السلام من موقف أبيه ودعا الله ثم قال لأبيه بأدب:(سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم ـ 47).
وذات يوم استيقظ أهل بابل بالعراق مبكرين وعلقوا الزينات في الشوارع وعلى بيوت البلدة وارتدى الأطفال الثياب الملونة الجديدة وخرجوا إلى الحدائق يلعبون ويمرحون .. ارتدى آزر عباءة جديدة ثم ذهب إلى إبراهيم السلام فوجده ما يزال نائماً.
صاح (آزر): استيقظ يا ولدي فاليوم عيدنا.. هيا ارتد ثياب العيد الجديدة وتعال معي للمعبد كي نقدم قرباناً للآلهة حتى ترضى عنا.
صاح إبراهيم: اذهب أنت يا أبي فإنني أشعر بالمرض.
خرج (آزر) وحده وفرح إبراهيم لأنه لم يشارك قومه في فعل الإثم وعبادة الأصنام وهو قد حذرهم كثيراً من غضب الله لكنهم لم يستمعوا إليه وآذوه.
تسلل إبراهيم من البيت واختبأ خلف المعبد حتى انتهى القوم من زيارة الأصنام وعادوا إلى بيوتهم .. دخل إبراهيم المعبد وتسلل إلى قاعة الأصنام فرأى كثيرا من الأطعمة أمام أقدامها.
نظر إبراهيم بغيظ إلى وجوه الأصنام القبيحة وحمل بعض الطعام وقربه من أفواهها وصاح: ألا تأكلون؟! .. ما لكم لا تنطقون؟!.
اشتد غيظ إبراهيم لأن قومه أشركوا بالله وعبدوا تلك الأحجار العاجزة، وفي الحال قرر أن يثبت لقومه أن آلهتهم عاجزة عن حماية نفسها.
أحضر إبراهيم فأساً وانقض بها على الأصنام فحطمها ولم يترك منها سوى الصنم الضخم الواقف في نهاية القاعة.
علق إبراهيم الفأس في رقبة ذلك الصنم وانصرف عائدا إلى بيته.
وفي المساء .. عاد القوم إلى معبدهم كى يأخذوا طعامهم ظناً بأن الأصنام باركتها ولما دخلوا إلى القاعة الكبرى أصابتهم صدمة كبيرة وتساءلوا:(.. مَن فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّه لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء ـ 59).
صاح بعض الحاضرين: سمعنا فتى يسب آلهتنا ويصفها بأنها عاجزة لا تنفع ولا تضر.
تساءل القوم:ـ من هو؟
قال رجل: إبراهيم بن آزر.
أمسك القوم بإبراهيم وسألوه: (.. أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء ـ 62).
أشار إبراهيم إلى الصنم الضخم وقال:(قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) (الأنبياء ـ 63).
نظر القوم إلى الأرض خجلاً وقالوا: أنت تعلم أن آلهتنا لا تنطق.
قال إبراهيم: أفتعبدون أصناماً لا تنفعكم ولا تضركم أفلا تعقلون؟!.
صاح القوم: احرقوا إبراهيم وانتقموا لآلهتكم.
أعد القوم أرضاً واسعة وبنوا حولها سوراً عالياً ثم جمعوا حطباً كثيراً وألقوه في الأرض ولما امتلأت أشعلوا نارا في الحطب.. قيد القوم إبراهيم واستعدوا لإلقائه في النار.
لجأ نبي الله إبراهيم إلى ربه ودعاه: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك .. اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك.
حمل القوم إبراهيم وتقدموا ليلقونه في النار فقال:(حسبنا الله ونعم الوكيل).
وفي الحال أمر الله تعالى النار المتأججة أن تصير كالهواء البارد اللطيف فقال:(.. يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء ـ 69).
وصار إبراهيم ـ عليه السلام ـ جالساً داخل النار دون أن يشعر بألم وأراد الله تعالى أن يؤنسه في وحدته فأرسل إليه جبريل ـ عليه السلام.
مرت أيام وأيقن القوم أن النار التهمت إبراهيم وانتهى أمره، لكنهم لم يصدقوا أعينهم عندما خمدت النيران ورأوا نبي الله إبراهيم سليماً لم يمسه أذى، وفي الحال أسلم بعض القوم بينما استمر الباقون على كفرهم حتى ساء مصيرهم.
.. يتبع الحلقة القادمة.

ناصر عبد الفتاح