الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان علمه البيان وجعل اللسان مع القلب دليلاً على عقل الإنسان. وصلى الله وسلم على خير من قال ومن علم محمد )صلى الله عليه وسلم( وبعد ..
فإنه لا توجد مهمة أعلى وأفضل وأهم وأخطر من مهمة الدعاة إلى دين الله. ذلك أنهم يحملون هم نشر الدين وتبليغه وتذكير الناس به، فقولهم هو أحسن قول، (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين)، (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍ عظيم).
وسوف نقدم خلال الشهر المبارك سلسلة حول الخطــابــة وفـــن الإلقـــاء، أسأل الله جل في علاه أن تكون عونا ونافعة لكل سالكي طريق الدعوة .. والله الموفق.
ثانياً: عيوب في الخطبة ومنها:
1 ـ خلوها من التشهد والثناء على الله والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم):(كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجزماء) أي: كاليد المقطوعة أو المصابة بالجزام.
وقد كانت العرب تذم الخطبة إذا لم يكن في أولها: الحمد لله والصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقد خطب الفضل بن عيسى الرقاشي إلى قوم من بني عكيم لنفسه، فلما فرغ قام اعرابي منهم فقال: توسلت برحم، أوليت بحقه، واستندت إلى خير، ودعوت إلى سنة، فطلبك مقبول، ومسألتك وحاجتك مقضية إن شاء الله تعالى .. فقال الفضل: لو كان الاعرابي حمدالله في أول كلامه وصلى على النبي (صلى الله عليه وسلم) لفضحني يومئذ .. أي لبلاغته وقد كان خطباء السلف الطيب وأهل البيان من التابعين بإحسان يسمون الخطبة التي لا تبتدأ بالتحميد وتستفتح بالتمجيد باسم البتراء.
ويسمون التي لم توشح بالقرآن وتزين بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) بالشوهاء.
2 ـ الطول الممل والقصر المخل: إن المقصود من الخطبة هو إفهام المخاطبين واقناعهم بمضمون الكلام الموجه اليهم، فكل ما يحول دون ذلك عيب يجب اجتنابه ، وأعظم ذلك الاطالة التي هي أدعى لسقطات اللسان وتبعث الملل والسآمة في الانسان ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم):(إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحراً)، وقوله:(مئنة من فقهه أي علامة على فقهه أو دليل عليه).
لكن ينبغي للخطيب وهو يراعى مجانبة هذا العيب أن يجانب أيضاً الوقوع في القصر المخل، وخير الامور الوسط ، فعن جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال:(كنت اصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فكانت صلاته قصر وخطبته قصراً).
3 ـ خلوها من نصوص الكتاب والسنة: وقد عد بعض الفقهاء من أركان الخطبة ذكرآية من كتاب الله تعالى، فلا يحسن بالخطيب أن يخلي خطبته من القران الكريم، ومن سنة المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، فإن ذلك يورث الكلام المهابة والوقار والرقة، وقد كان (صلى الله عليه وسلم) يعظ بالقرآن الكريم، فعن صفوان بن يعلى عن أبيه أنه سمع النبي (صلى الله عليه وسلم) يقرأ على المنبر:(ونادوا يا مالك) بل ربما قرأ سورة بأكملها فعن اخت العمرة قالت: اخذت (ق والقرآن المجيد) من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة.
4 ـ كثرة الشعر فيها: فقد يصل الحد ببعض الخطباء إلى أن ينزل الشعر منزلة الكتاب والسنة، فيستدل به كما يستدل بالكتاب والسنة، بل بعضهم قد لا يستدل إلا به، وهذا عيب كبير وطريق إلى تقرير الباطل إذا كان ذلك الشعر مشتمل على باطل، قال الجاحظ:(وأكثر الخطباء لا يلقون في خطبهم الطوال بشئ من الشعر) على أن إلاستشهاد بالشعر الذى له وقع في النفس، ويؤيد المعنى الذى نسج له الكلام لا بأس به إذا كان بقدر وناسب المقام، وقد كان بعض خطباء العرب تفعله.

5 ـ اشتمالها على ألفاظ منكرة شرعاً أو عرفاً: من الألفاظ المنكرة شرعاً أن يقول (ما شاء الله وما شاء فلان) أو يقول (من أطاع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما) أو يقسم بغير الله تعالى أو غير ذلك من الألفاظ المنكرة عرفاً أومااتفقت طباع الناس على استقباحه واستهجانه، فعلى الخطيب أن يتجنبه وأن يعدل عنه إلى بديل يعرفه القوم ولا ينكرونه، وهذا يختلف باختلاف البقاع والاماكن ومن هنا فانه يلزم من أراد أن يخطب في قوم أن يعرف لسانهم وعاداتهم وأعرافهم وذلك حتى لا يقع فما يصدهم عنه ويسقطه من أعينهم.
والله عز وجل يقول في كتابه الحكيم، (وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسانِ قومه ليبين لهم ..).
6 ـ اشتمالها على باطل: وهذا من أخطر العيوب وأشدها ضرراً على الناس وبخاصة إذا كان الخطيب ممن يملكون ناصية الحديث والكلام فانه بحسن كلامه ومنطقة يتوصل إلى تقرير باطل كعقيدة فاسدة، أو بدعة محدثة أو معاملة محرمة، أو معصية لله ورسوله (صلى الله عليه وسلم).
7 ـ اشتمال الخطبة على أحاديث ضعيفة أو موضوعة: وهذا العيب يأتي نتيجة لقلة التحرى أو لعدمه أحيانا وقلما يسلم منه خطيب في عالمنا الاسلامي هذه الايام.
والحق أنه يخشى على من وقع في مثل هذا أن يتناوله الوعيد الذي ذكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في قوله:(من حدّث عني بحديثٍ يرى أنه كذب فهو احد الكاذبين) ـ رواه مسلم، وقيل أيضاً:(كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) ـ رواه مسلم.
ويصبح هذا العيب أشد تفاقماً إذا كانت الخطبة تعتمد على هذه الاحاديث أو هذه النصوص أو انها مبنية عليها، ولذا فإنه يجب على الخطيب أن يتحرى ويدقق ويتثبت من صحة الاحاديث والنصوص حتى وإن وجدها مكتوبة في بعض الكتب لأن كل كلمة تخرج منه يصبح هو، وهو وحده مسؤولاً عنها أمام الله عز وجل ثم أمام الناس أيضاً.
8 ـ طغيان الاسلوب العلمي أو التخصصي أو الادبي على الوعظي: ومن مظاهر هذا العيب أن يستعمل الخطيب مصطلحات علمية دقيقة قد لا يدركها عامة الناس، ومن مظاهره أيضاً التوسع في تخريج الاحاديث والاطالة في بيان سندها والكلام على طرقها وعللها مما لا فائدة منه لعموم الناس، وهذا لا يناقض كلامنا حول ضرورة التحري والتدقيق والتثبت ولكن هذا التحري للإمام وهو يعد الخطبة يضبط به النص ويضبط به الخطبة وليس لجمهور المخاطبين الذين لا يهمهم معرفة طرق ورجال الحديث وإن كان من الافضل بل أرى من الواجب أن يذكر من روى الحديث ومن أي كتاب أخذه، كأن يقول:(رواه البخاري ـ رواه مسلم ـ رواه الربيع ـ رواه الحاكم في المستدرك وهو عند الطبراني في الأوسط وهكذا .. الخ)، ومن مظاهره أيضاً خلو الخطبة من الأساليب الإنشائية كالأمر والنهى والاستفهام والتعجب والدعاء وغير ذلك، مما قد يخرج الخطبة من حد الخطابة إلى حد المقالة.
9 ـ عدم ايفاء الموضوع حقه: وذلك بأن لا يتم تناول جميع عناصر الموضوع، أو أن يستطرد ويفرع حتى يخرج عن الموضوع الذي يخطب من أجله، أو أن يشتت الموضوع ويبعثر الأفكار ولا يربط بينها.
10 ـ خلوها من الارشاد والتوجيه الفوري: وذلك بأن يغض الإمام الطرف عمن يتخطى رقاب الناس مثلاً وهو يخطب، إن تكرر هذا الفعل من نفس الشخص أكثر من مرة أو يحصل بين يديه أمر منكر فلا ينهى عنه، أو أن لا تشتمل الخطبة على إرشاد للناس ونصح لهم في مسألة من المسائل.
11 ـ اشتمالها على مقدمات أو خواتم ثابتة لا تتغير: وهذا ولا شك عيب في الخطبة لأن المقدمة لابد لها وأن تتناسب مع الموضوع وكذا الخاتمة كما سيأتي إن شاء الله عند حديثنا عن تقسيم الخطبة وبنائها.
12 ـ غلبة التسهيل والترخيص عليها أو الترهيب دون الترغيب والعكس: يقول الامام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري:(من آداب الخطبة ترجيح التخويف فيها على التوسع في الترخيص، لما في ذكر الرخص من ملاءمة النفوس لما جبلت عليه من الشهوة).
والطبيب الحاذق يقابل العلة بما يضادها لا بما يزيدها.
ثالثاً ـ عيوب نسبية:
قد يكون الخطيب متوفرة فيه شروط الخطابة، وقد تكون خطبته بالغة الغاية في الجودة مبنىً ومعنى، ولكنها لا تناسب المكان الذي هو فيه، أو الناس الذين يخطب فيهم، وهذا ما نعني بالعيوب النسبية.
1 ـ عدم مناسبة الخطبة للمخاطبين: وسبب هذا العيب في الغالب هو الجهل بواقع المخاطبين وأحوالهم ومستوياتهم وأعرافهم فلا يراعي في خطبته المستوى العلمي واللغوي لدى المخاطبين، فيتناول موضوعا يفوق أفهامهم، ويستعمل ألفاظاً لا يدركها أكثرهم ، ولتحاشى هذه الآفة على الخطيب أن ينوع في إستعمال المرادفات حتى يقع على اللفظ الذي يفهمة السامع ويصل به إلى المعنى الذي يريد أن يبلغه.
قال بعض الأدباء: وليس يشرف المعنى بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتصنع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة من الخطاب، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال. فمن تمكن من البلاغة في البيان على أن يفهم العامة معاني الخاصة، وتكون الخطبة بالألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء فهو البليغ التام والخطيب المصقع.
2 ـ عدم مناسبة الخطبة للمكان: وذلك كأن يتناول في قلب الصحراء موضوع المنكرات التي تحصل في شواطئ البحار، أو يتكلم عن أحكام زكاة الزروع والضروع في مكان ليس فيه زرع ولاضرع، أوغير ذلك، فعلى الخطيب أن يراعي المكان الذي هو فيه، وأن تكون خطبته مواتية للظروف الذي يخطب فيه.
3 ـ عدم مناسبة الخطبه للزمان: وذلك كأن يتبين فضل الجهاد وبعض أحكامه في زمان فتنة، أو يتكلم عن فضل العشر الأواخر من رمضان في أشهر الحج ، أو يتناول فضل الحج في شهر رمضان ، أو غير ذلك من نظائرها مما يقع فية الخطباء كعدم مراعاة الأحداث، والمناسبات الشرعية ذات الشأن.
.. يتبع.

أحمد محمد خشبة
إمام وخطيب جامع ذو النوريين
[email protected]