جاء في صحيح البخاري باب الصيام وفضله حديث (رقم ـ 1760) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ:(الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا)، والإمام ابن حجر العسقلاني يقول في شرحه لهذا الحديث الشريف:(وَالْجُنَّة بِضَمِّ الْجِيم الْوِقَايَة وَالسَّتْر: ومَعْنَى كَوْنه جُنَّة أَيْ: يَقِي صَاحِبه مَا يُؤْذِيه مِنْ الشَّهَوَات)، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: جُنَّة أَيْ: سُتْرَة ، يَعْنِي بِحَسَبِ مَشْرُوعِيَّته، فَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَصُونَهُ مِمَّا يُفْسِدهُ وَيَنْقُص ثَوَابه.
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ: إِنَّمَا كَانَ الصَّوْم جُنَّة مِنْ النَّار لِأَنَّهُ إِمْسَاك عَنْ الشَّهَوَات، وَالنَّار مَحْفُوفَة بِالشَّهَوَاتِ، فَالْحَاصِل أَنَّهُ إِذَا كَفّ نَفْسه عَنْ الشَّهَوَات فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَلِكَ سَاتِرًا لَهُ مِنْ النَّار فِي الْآخِرَة، وقَوْله:(فَلَا يَرْفُث) أَيْ: الصَّائِم وَالْمُرَاد بِالرَّفَثِ هُنَا: هُوَ الْكَلَام الْفَاحِش، وَهُوَ يُطْلَق عَلَى هَذَا وَعَلَى الْجِمَاع وَعَلَى مُقَدِّمَاته وَعَلَى ذِكْره مَعَ النِّسَاء أَوْ مُطْلَقًا، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون لِمَا هُوَ أَعَمّ مِنْهَا قَوْله:(وَلَا يَجْهَل أَيْ لَا يَفْعَل شَيْئًا مِنْ أَفْعَال أَهْل الْجَهْل كَالصِّيَاحِ وَالسَّفَه وَنَحْو ذَلِكَ)، وقَوْله:(وَإِنْ اِمْرُؤٌ) (قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ)، وَفِي رِوَايَة:(فَإِنْ سَابَّهُ أَحَد أَوْ قَاتَلَهُ فَقُلْ إِنِّي صَائِم وَإِنْ كُنْت قَائِمًا فَاجْلِسْ) وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَات كُلّهَا عَلَى أَنَّهُ يَقُول: (إِنِّي صَائِم) فَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا مَرَّتَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ اِقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَة (إني صَائِم)، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُفّ عَنْهُ، فَإِنْ أَصَرَّ دَفَعَهُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفّ، فَالْمُرَاد مِنْ الْحَدِيث أَنَّهُ لَا يُعَامِلهُ بِمِثْلِ عَمَله بَلْ يَقْتَصِر عَلَى قَوْله:
(إِنِّي صَائِم) وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَاد بِقَوْلِهِ:(فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِم) هَلْ يُخَاطِب بِهَا الَّذِي يُكَلِّمهُ بِذَلِكَ أَوْ يَقُولهَا فِي نَفْسه؟ وَبِالثَّانِي جَزَمَ الْمُتَوَلِّي وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيّ عَنْ الْأَئِمَّة ، وَرَجَّحَ النَّوَوِيّ الْأَوَّل فِي (الْأَذْكَار) وَقَالَ فِي (شَرْح الْمُهَذَّب) كُلّ مِنْهُمَا حَسَن ، وَالْقَوْل بِاللِّسَانِ أَقْوَى وَلَوْ جَمَعَهُمَا لَكَانَ حَسَنًا قَوْله:(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا قَوْله:(لَخُلُوف)، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِهِ تَغَيُّر رَائِحَة فَم الصَّائِم بِسَبَبِ الصِّيَام، قَوْله:(فَم الصَّائِم أَطْيَب عِنْد اللَّه مِنْ رِيح الْمِسْك) اخْتُلِفَ فِي كَوْن الْخُلُوف أَطْيَب عِنْد اللَّه مِنْ رِيح الْمِسْك، فالْمُرَاد أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَجْزِيه فِي الْآخِرَة فَتَكُون نَكْهَته أَطْيَب مِنْ رِيح الْمِسْك كَمَا يَأْتِي الْمَكْلُوم وَرِيح جُرْحه تَفُوح مِسْكًا قَوْله:(يَتْرُك طَعَامه وَشَرَابه وَشَهْوَته مِنْ أَجْلِي)، وعَنْ أَبِي الزِّنَاد فَقَالَ فِي أَوَّل الْحَدِيث:(يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: كُلّ عَمَل اِبْن آدَم هُوَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَام فَهُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَإِنَّمَا يَذَر اِبْن آدَم شَهْوَته وَطَعَامه مِنْ أَجْلِي) قوْله:(الصِّيَام لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْمَال الْبِرّ كُلّهَا لِلَّهِ وَهُوَ الَّذِي اَجْزِي بِهَا، فَنَرَى وَاللَّه أَعْلَم أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ الصِّيَام لِأَنَّهُ لَيْسَ يَظْهَر مِنْ اِبْنِ آدَم بِفِعْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء فِي الْقَلْب.
وَيُؤَيِّد هَذَا التَّأْوِيل قَوْله (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(لَيْسَ فِي الصِّيَام رِيَاء: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَال لَا تَكُونُ إِلَّا بِالْحَرَكَاتِ، إِلَّا الصَّوْم فَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَنْ النَّاس، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَعْمَال قَدْ كَشَفْت مَقَادِير ثَوَابهَا لِلنَّاسِ وَأَنَّهَا تُضَاعَف مِنْ عَشْرَة إِلَى سَبْعمِائَةِ إِلَى مَا شَاءَ اللَّه، إِلَّا الصِّيَام فَإِنَّ اللَّه يُثِيب عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَقْدِير فكُلّ عَمَل اِبْنِ آدَمِ يُضَاعَف الْحَسَنَة بِعَشْرِ أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْف إِلَى مَا شَاءَ اللَّه، قَالَ اللَّه تعالى في الحديث القدسي:(إلا الصَّوْم فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ) أَيْ: أُجَازِي عَلَيْهِ جَزَاء كَثِيرًا مِنْ غَيْر تَعْيِين لِمِقْدَارِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) انتهى كلام ابن حجر.
وبعد أخي الصائم:هذا بيان للناس وتوضيح للأمور من رب العالمين لعباده الصائمين أن يجتهدوا في صيامهم أن يجعلوه سليماً من الشوائب، بعيداً عن الرياء مغتنمين فيه كل لحظة من هذا الشهر الفضيل في طاعة الله تعالى وعبادته, ولنعلم جيداً: أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فاللهم إنا نسألك القبول لكل أعمالنا في هذا الشهر وكل الشهور وفي عمرنا كله يارب العالمين .. اللهم آمين والحمد لله رب العالمين.

إبراهيم السيد العربي
إمام وخطيب جامع الشريشة/ سوق مطرح