أيها القراء الكرام: بعد أن ذكرت لكم اعزائي القراء صفات المتقين مجملة أبدأ معكم في ذكرها مفصلة صفة صفة لعلنا نتحقق بها فنفوز بجنة عرضها السماوات والأرض.
وأولى الصفات صفة الإيمان بالله واليوم الآخر، الإيمان لغةً هو التصديق، واصطلاحاً هو قولٌ باللسان وتصديق بالجوارح، أي أن أعمال الجوارح تكون انعكاساً لما يقوله اللسان وليس عكسه ولا يتضارب معه. يوجد في الإسلام ثلاث درجات، أولها الإسلام؛ وأوسطها الإيمان؛ وأعلاها الإحسان. وهذا ما ذُكر في حديث جبريل عليه السلام فإنه سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الإسلام فقال‏ (‏الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً‏). وسأله عن الإيمان فقال‏ (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره‏)، حيث بدأ السؤال عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان، فبدأ بالأدنى مرتبة. وكما جاء في كتاب الله (‏قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، أي أنتم لم تؤمنوا بعد ولكنكم مسلمون، لأن الإيمان درجة أعلى ولم يدخل الإيمان بَعْدُ في قلوبكم.
وفي هذا الحديث دليل على أن هذا الدين ثلاث مراتب الإسلام والإيمان والإحسان. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة بعبادة الله وعدم الإشراك به وهو مقتضى الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بالأعمال الباطنة وقد دلت النصوص بمجموعها أنها ستة أصول يلزم العبد الإيمان بها ولا يتم إيمانه إلا بها الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره وقد أجمع أهل السنة على ذلك ،
والإيمان هو انقياد باطني، أي أنه لا يمكن لأحد أن يراه أو يتأكد منه، فهو علاقة خاصّة بين الإنسان وربّه، والله سبحانه وتعالى وحد هو المطَّلع على هذا الأمر. على سبيل المثال في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه)، وهذا أمرٌ قلبيٌّ لا يمكن تحديده ولا قياسه بمقاييس البشر، ولا يمكن وزنه كغيره من الأمور. فيمكن أن نعرف أن فلاناً حجَّ بيت الله الحرام مرتين، ولكننا يستحيل أن نعرف يقيناً أنه يحبُّ جاره أم لا، فنحن لنا الظواهر، ولله سبحانه وتعالى ما تخفي الصدور. وكذلك لا يمكننا الحُكم على مقدار الأجر ولا عن قبول هذه الأعمال من العبد أو عدم قبولها.
وكم في الإيمان الصحيح من الفوائد والثمرات العاجلة والآجلة في القلب والبدن والراحة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة فخيرات الدنيا والآخرة ودفع الشرور كلها من ثمرات الإيمان.
فمن أعظم فوائد الإيمان وثمراته الاغتباط بولاية الله تعالى الخاصة التي هي أعظم ما تنافس فيه المتنافسون وأجل ما حصله الموفقون قال تعالى:(أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فكل مؤمن تقي فهو لله ولي ولاية خاصة من ثمراتها ما قاله الله عنهم: "اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمات الكفر والجهل والغفلة إلى نور الإيمان والعلم والطاعة والانقياد والتذكر.
ومن ثمرات الإيمان الفوز برضا الله تعالى ودار كرامته قال تعالى:(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، ومنها أن الإيمان الكامل يمنع من دخول النار والإيمان الضعيف القليل يمنع من الخلود فيها فمن آمن إيماناً أدى به الواجبات وترك المحرمات لا يدخل النار ولا يخلد فيها من في قلبه شيء من الإيمان كما تواترت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومنها أن الله يدافع عن المؤمنين جميع المكاره وينجيهم من الشدائد كما قال تعالى:(إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)، ومنها أن جميع الأعمال والأقوال إنما تصح وتكمل بحسب ما قام بقلب صاحبها من الإيمان والإخلاص والمحبة لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وسلم)، ومنها أن صاحب الإيمان يهديه الله إلى صراطه المستقيم يهديه إلى علم الحق والعمل به وإلى تلقي المحاب والمسار بالشكر وتلقي المكاره والمصائب بالصبر والرضا كما قال تعالى:(وَمَن يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)، قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
ومن ثمرات الإيمان ولوازمه من الأعمال الصالحة محبة الله للمؤمن ومحبة المؤمنين له كما قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) أي: محبة في قلوب الخلق ومن أحبه الله وأحبه المؤمنون حصلت له السعادة والفلاح والفوائد الكثيرة من محبة المؤمنين من الثناء والدعاء له حياً وميتاً وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومنها كذلك أن الله يرفع درجات المؤمنين في الدنيا والآخرة بإيمانهم الصحيح وعلمهم النافع وعملهم الصالح (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ).
ومن فوائد الإيمان الانتفاع بالمواعظ والتذكير والآيات كما قال تعالى:(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، ومنها أن الإيمان يحمل صاحبه على الشكر في حالة السراء والصبر في حالة الضراء وكسب الخير في كل أوقاته كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم):(عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)ـ رواه مسلم.
فيجتمع للمؤمن عند السراء والنعم نعمتان نعمة حصول المحبوب ونعمة التوفيق للشكر وبذلك تتم عليه النعمة وتحصل له الزيادة، ويجتمع له عند الضراء ثلاث نعم نعمة تكفير السيئات ونعمة الحصول مرتبة الصبر ونعمة سهولة الضراء عليه كما تحصل له الرحمة من ربه والهداية:(أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، ومنها أن الإيمان يقطع الشكوك التي تعرض لكثير من الناس فتضر بدينهم وذلك لأن الباطل يتضح بطلانه بأمور كثيرة أعظمها العلم أنه مناف للحق وكل ما ناقض الحق فهو باطل:(فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ)، ومنها أن الإيمان ملجأ المؤمنين في كل ما يلم بهم من سرور وحزن وخوف وأمن وطاعة ومعصية وغير ذلك من الأمور التي لابد لكل واحد منها وذلك من فضل الله عليهم، ومنها أن الإيمان الصحيح يمنع العبد من الوقوع في الموبقات المهلكة حياء من الله وإيماناً باطلاعه عليه وخوفاً من عقابه ورجاء لثوابه، وحصول الفلاح الذي هو إدراك المطلوب والنجاة من كل مرهوب كما قال تعالى بعد أن ذكر أوصاف المؤمنين (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، وحصول البشارة بكرامة الله والأمن التام من جميع الوجوه في الدنيا والآخرة أمنٌ من سخط الله وعقابه وأمنٌ من جميع المكاره والشرور والبشارة الكاملة بكل خير (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ).

إعداد ـ محمد عبد الظاهر عبيدو
إمام وخطيب جامع محمد الأمين