بداية يمكن تقسيم العبادة إلى قسمين، القسم الأول: عبادات محضة كالصلاة والصيام والحج والقربان، وهذا ما يظهر من قوله تعالى:)وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(، إذ كانوا يتقربون إلى المخلوقات من ذبح وصلوات ونذور وغيرها، وهذه عبادات محضة لا يتقرب بها إلا لله تعالى وحده.
القسم الثاني: حياة الإنسان وأعماله في هذه الحياة، إذا ما قصد بها وجه الله، فأعماله في بيته وسوقه ومكان عمله، هي عبادة في حقيقتها، يثاب عليها يوم يلقى الله تعالى، وهذا ما يظهر من قوله تعالى:(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا).
وعليه من خلال ما تقدم يمكن أن ندرك أنّ العمل يتحول إلى عبادة بشرطين، الشرط الأول: أن يكون العمل صالحاً لا سيئاً، قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (النساء ـ 36) فلا يمكن أن يكون العمل السيئ يوما من الأيام عبادة يثاب عليها العبد، فالمجالس إذا فيها غيبة ونميمة وقذف هذه أعمال سيئة لا يمكن أن تتحول إلى عبادة، خلاف المجالس الطيبة، التي تكون وفق المباح، مع مراعاة حدود الله تعالى، قال سبحانه:(لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
والشرط الثاني: أن يقصد بالعمل وجه الله تعالى، مع الإخلاص له، وعدم الشرك به، وأصل هذا قوله تعالى:(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
فإذا توفر هذان الشرطان في أي عمل كان العمل عبادة يجد العبد أثرها يوم القيامة، وفي هذا يظهر التطبيق النبوي عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من خلال قوله:(إنما الأعمال بالنيات).
لذا نتيجة الفهم الخاطئ لمفهوم العبادة ترتب عليه سلوكيات خاطئة، وأفعال معوجة، ظنّ بعضهم بذلك القرب من الله تعالى، وهم في الحقيقة واقعون في الطريق الخاطئ، والسلوك البعيد عن التصور الإلهي من خلال كتابه للعبادة كما تقدم بيانه، ومن هذه المظاهر:
ـ الإخلال بأعمال الناس بدعوى قيام الليل، مع إمكانه أن يقتصر على القليل من القيام ولو ركعتين إذا يؤثر على عمله بالنهار، لأنّه كما أنّ قيام الليل عبادة؛ أيضا الإتيان بالعمل الملزم عليه عبادة، بل أنّ الثاني أولى، لأنه ألزم نفسه بعقد، والله تعالى يقول:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).
بل إني لأخشى أن يتحول هذا القيام إلى معصية والعياذ بالله تعالى، لأنه أخل بالأمانة وضيعها، وهذه معصية كبيرة في حق الله، وفي حق المخلوقين، وكان بإمكانه الجمع بينهما بالتقليل من القيام، حتى لا يضر عمله، والله أعلم بخاطر قلبه، قال تعالى: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ـ تضييع حقوق الأهل بدعوى الخروج في سبيل الله، ولا ننكر نحن الدعوة إلى الله تعالى، ولكن أن يضيع الإنسان من يعول بدعوى الخروج، والخروج عبادة، وهذا فهم خاطئ للعبادة، فإذا كان الخروج يضر بمن يعول الإنسان، ويقصر في حقوق العباد، هذا لا يسمى عبادة بل خيانة للأمانة، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
ـ التقليل والاستخفاف من أمور مهمة باعتبارها دنيوية، كالكتابة والبحث والمطالعة، وكسب الرزق، والسعي في الأرض، والإصلاح بين الناس، وغيرها كثير، مع أنّ هذه عبادات عظيمة لو اهتم بها الإنسان، لكان عمارة للأرض وفق العمل الصالح، وهذا الذي يريده الله سبحانه وتعالى منا.

بدر بن سالم العبري