من فضل الله تعالى على عباده: أن فتح لهم باباً للتوبة لا يُغلق أبداً .. ومنذ بدء الخليقة ورب العالمين قد منح عباده, الفرصة تلو الفرصة ليتوبوا من خطاياهم، وأول ما بدأ به كان أبونا آدم ـ عليه السلام, والقصة في القرآن الكريم مشهورة ومذكورة في أكثر من سورة كريمة, ونحن بني آدم وخاصة نحن أمة الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم) مطالبون: بأن نكثر من التوبة والرجوع إلى الله تعالى، وخاصة أن الله تعالى قد أعطانا من فضله أوقاتاً يُستجاب فيها الدعاء وخصّنا بشهر رمضان المبارك الذي تُفتح فيه أبواب الجنان وتُغلق فيه أبواب النيران ويستجاب فيه الدعوات وتُغفر فيه الزلات وكل هذا بفضل الله العلي القدير.
فالمحروم من حُرم الخير في هذا الشهر الفضيل, ومع هذه الوقفات للتائبين ممن سبقونا وندعو الله تعالى: أن يجعل فيها العبرة والعظة لكل من يقرأ هذه والسطور ويبلغها لمن يُحب, فالدّالُ على الخير كفاعله ولنبدأ بتوبة الصحابي الجليل أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن فتواه في امرأة زانية: جاء في تنبيه الغافلين: عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: خرجتُ ذات ليلة بعد ما صلّيت العشاء مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم), فإذا أنا بامرأة متنقبة قائمة على الطريق فقالت: يا أبا هريرة: إني قد ارتكبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقلت: وما ذنبك؟ قالت: إني زنيت وقتلتُ ولدي من الزنا. فقلت لها: هلكت وأهلكت والله مالك من توبة فشهقت شهقة خرت مغشياً عليها, ومضت فقلت في نفسي. أُفتي ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرنا؟ فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقلت: يا رسول الله! إن امرأة استفتتني البارحة بكذا وكذا فقال: رسول الله (صلى الله عليه وسلم): إنا لله وإنا إليه راجعون. أنت والله هلكت وأهلكت, أين كنت عن هذه الآية:(والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون .. إلى قوله: فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً) (الفرقان ـ 70) قال: فخرجت من عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم), وأنا أعدو في سكك المدينة وأقول: من يدلني على امرأة استفتتني البارحة كذا وكذا؟ والصبيان يقولون: جن أبو هريرة, حتى إذا كان الليل لقيتها في ذلك الموطن فأعلمتها بقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأن لها التوبة فشهقت شهقة من السرور وقالت: إن لي حديقة وهي صدقة للمساكين لذنبي.أما الموقف الثاني فهو عنتوبة ثعلبة بن عبد الرحمن ـ رضي الله عنه ـ عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: أسلم فتى من الأنصار يقال له: ثعلبة بن عبد الرحمن قال: وكان يخدم النبي (صلى الله عليه وسلم), وإن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعثه في حاجة له, فمر بباب رجل من الأنصار, فرأى امرأة من الأنصار تغتسل وخاف أن ينزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما صنع فخرج هارباً على وجهه، فأتى جبالاً بين مكة والمدينة فدخلها, ففقده النبي (صلى الله عليه وسلم) أربعين يوماً, وإن جبريل ـ عليه السلام ـ نزل على النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا محمد: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن رجلاً من أمتك بين هذه الجبال يتعوذ بي, فقال: النبي (صلى الله عليه وسلم): يا عمر ويا سلمان: انطلقا فأتياني بثعلبة بن عبد الرحمن, فخرجا من أنقاب المدينة فلقيا راعياً من رعاة المدينة يقال له: ذفافة. فقال له عمر: هل لك علم بشاب بين هذه الجبال يقال له: ثعلبة؟ قال: لعلك تريد الهارب من جهنم فقال له: وما علمك بأنه هارب من جهنم؟ قال: لأنه إذا كان جوف الليل خرج علينا من بين هذه الجبال واضعاً يده على أم رأسه، فقال عمر: إياه نريد , فانطلق بهما, فلما كان في جوف الليل خرج عليهم من بين تلك الجبال واضعاً يده على أم رأسه وهو ينادي: يا ليتك قبضت روحي في الأرواح ,وجسدي في الأجساد, ولم تجردني لفصل القضاء قال: فغدا عليه عمر فاحتضنه فقال: يا عمر: هل علم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بذنبي؟ قال: لا علم لي إلا أنه ذكرك بالأمس, فأرسلني وسلمان في طلبك قال: يا عمر لا تدخلني عليه إلا وهو في الصلاة, فابتدر عمر وسلمان الصف, فلما سمع ثعلبة قراءة النبي (صلى الله عليه وسلم) خرّ مغشياً عليه, فلما سلم النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(يا عمر: يا سلمان: ما فعل ثعلبة؟ قالا: هاهو ذا يا رسول الله , فقام النبي (صلى الله عليه وسلم) فحركه فانتبه فقال: له رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(ما غيّبك عني؟ قال: ذنبي يا رسول الله. قال: أفلا أدلك على آية تمحو الذنوب والخطايا؟ (قال: بلى يا رسول الله: قال: قل ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة في الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) قال: ذنبي يا رسول الله أعظم قال:(بل كلام الله أعظم ) ثم أمره بالانصراف إلى منزله فمرض ثمانية أيام, ثم إن سلمان أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله: هل لك في ثعلبة ؟ فإنه لما به قد هلك , فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(قوموا بنا إليه, فدخل عليه فأخذ رأسه فوضعه عن حجره, فأزال رأسه عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال له : لم أزلت رأسك عن حجري؟ قال: لأنه ملآن من الذنوب قال: ما تشتكي؟ قال: مثل دبيب النمل بين عظمي ولحمي وجلدي. قال: ما تشتهي؟ قال: مغفرة ربي قال: فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك: لو أن عبدي هذا لقيني بقرآب الأرض خطيئة لقيته بقرابها مغفرة قال: فأعلمه النبي (صلى الله عليه وسلم), قال: فصاح صيحة فمات قال: فأمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بغسله وكفنه فلما صلى عليه جعل يمشي على أطراف أنامله فلما دفنه قيل له: يا رسول الله: رأيناك تمشي على أطراف أناملك قال: والذي بعثني بالحق نبياً ما قدرت أن أضع قدمي على الأرض من كثرة من نزل من الملائكة لتشييعه).
وبعد أخي المسلم الكريم فمن ما سبق نقول: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ونحن والحمد لله من عباده المسلمين فمهما كانت ذنوبناكثيرة فإن رحمة الله واسعة , ولكن هي تذكرة لمن أراد أن يتذكر, وندعو الله تعالى أن يقبل توبتنا وأن يجعلنا هُداة مهديين, لا ضالين ولا مضلين . اللهم آمين والحمد لله رب العالمين.

إبراهيم السيد العربي
إمام وخطيب جامع الشريشة ـ سوق مطرح