يوسف الصدِّيق (1)
رفعت راحيل يديها إلى السماء ودعت ربها أن يرزقها بطفلٍ يسعد زوجها يعقوب، ويملأ عليه الدنيا بهجة وسعادة، وانهمرت الدموع على خديها وهي تناجي ربها واستجاب الرحيم دعاءها في تلك الليلة فنامت آمنة مطمئنة.
وأخيراً وبعد عدة شهور وضعت راحيل طفلاً رائع الحسن يبهر كل من تقع عليه عيناه.
فرح يعقوب بطفله (يوسف) وأعجب بحسنه الباهر فحمله وضمه إلى صدره وقبله وهتف: سبحان الله.
نشأ يوسف هادئاً مؤدباً مطيعاً لوالديه فنال حبهما واهتمامهما واغتاظ إخوته وشعروا بالغيرة واشتد كرههم لأخيهم يوسف لأن الله وهبه جمالاً مبهراً وخلقاً حسناً فحظي بمحبة الجميع.
مرت الأيام وأمر الله تعالى نبيه يعقوب بالعودة إلى وطنه في أرض كنعان بفلسطين فغادر أرض حوران في الحال.
عاش النبي مع أهله سعيداً ووضعت راحيل طفلاً آخر أسمته (بنيامين).
وذات ليلة رأى يوسف في منامه رؤيا غريبة أصابته بحيرة شديدة فأسرع إلى أبيه وقال له:(.. يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ). (يوسف ـ 4).
استغرق يعقوب في التفكير وأدرك أن يوسف سينال منزلة عظيمة وشأناً كبيراً.
وخشى النبي أن يخبر يوسف إخوته بتلك الرؤيا فيدبروا له المؤامرات ولذلك قال له:
(.. يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا، إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (يوسف ـ 5).
واشتد خوف يعقوب عندما رأى أبناءه يعاملون يوسف بقسوة وغلظة وقرر ألا يتركه وحده معهم فكان يأخذه معه أينما ذهب.
ازداد كره أبناء يعقوب لأخيهم يوسف وقرروا أن يتخلصوا منه ثم يتقربوا إلى أبيهم فيكسبوا محبته ومودته.
قال الإخوة:(.. لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (يوسف ـ 8)
اجتمع الأخوة في المرعى لبحث أمر يوسف فاقترح أحدهم قتله لكن إخوته رفضوا اقتراحه لأنهم يبغضون القتل.
اقترح آخر نفي يوسف إلى مكان بعيد جداً لن يستطيع العودة منه لكن باقي الأخوة استبعدوا تلك الفكرة.
اقترح روبيل إلقاء يوسف في بئر المرعى فربما يلتقطه بعض المارة ويأخذونه معهم وبذلك يرتاحوا منه.
تساءل بعض الأخوة: وإذا أخرجه بعض المارة من البئر وأرجعه إلى أبينا؟.
قال روبيل: لن ننصرف قبل أن نتأكد من رحيل يوسف.
وعاد الأخوة إلى بيتهم بعد أن رسموا خطتهم الشريرة وعزموا على تنفيذها فقالوا لأبيهم:(.. يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ، أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (يوسف 11 ـ 12).
تذكر يعقوب بغض أولاده وحقدهم على يوسف وخشي أن يرسله معهم فتعرض للهلاك فقال لهم:(.. إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) (يوسف ـ 13).
قال الأبناء:(.. لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ) (يوسف ـ 14).
أخذ إخوة يوسف يرجون أبيهم حتى بعث يوسف معهم وجلس في بيته قلقاً حائراً ورفع يديه إلى السماء داعياً ربه.
انطلق الإخوة إلى المرعى وفي الطريق انهالوا على يوسف بالإيذاء حتى وصلوا إلى البئر فخلعوا قميصه ثم ألقوه في بئر المرعى فاستقر في قاعه وكان قليل المياه.
وأرسل الله تعالى جبريل إلى يوسف فطمأنه وبشره بأن الله سيخرجه من البئر، وأخبره أنه في يوم ما سيقف أمام إخوته وهم خائفين يرجون رضاه دون أن يعرفونه، وأخبره جبريل أنه سيذِّكر إخوته بما فعلوا.
قال تعالى:(فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) (يوسف ـ 15).
فرح يوسف ـ عليه السلام ـ بتلك البشرى وحمد الله على رعايته بينما مكث إخوته خلف الصخرة .. لم يمضِ وقت طويل إلا ومرت قافلة قادمة من الشام وذاهبة إلى مصر.
ألقى أحد أفراد القافلة بدلوه وانتظر حتى يمتلأ بالمياه .. رفع الرجل دلوه بصعوبة فرأى غلاماً متعلقاً به.
صاح الرجل فرحاً:(.. يا بشرى هذا غلام ..) (يوسف ـ 19)
اجتمع أفراد القافلة حول يوسف وانشغلوا به وقال أحد تجار القافلة لنفسه: إنه غلام رائع الحسن ويمكنني بيعه بمبلغ ضخم لأحد الأثرياء.
وكان الغلمان الأسرى يباعون قديما لخدمة الأثرياء، وقد أبطل الإسلام هذه العادة.
دفع التاجر مبلغاً زهيداً لمن عثر على يوسف واصطحبه معه إلى مصر.
ذبح أبناء يعقوب شاة ولطخوا قميص يوسف بدمها ثم عادوا إلى أبيهم وتظاهروا بالحزن وتباكوا بدموع زائفة.
نظر يعقوب ـ عليه السلام ـ إلى أبنائه وفتش بعينيه عن يوسف فلم يجده بينهم.
صاح يعقوب ـ عليه السلام: أين يوسف؟!
قال الإخوة:(.. يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) (يوسف. ـ 17).
وقع كلام الأبناء على أبيهم كالصاعقة فأخذ ينظر إليهم بذهول وهو غير مصدق ما سمعه وشعر الإخوة بالحرج الشديد فأخرجوا قميص يوسف الملطخ بدم الشاة وأعطوه لأبيهم.
أمسك يعقوب ـ عليه السلام ـ بالقميص وقلبه بين يديه فرآه سليماً غير ممزق.. تعجب النبي وتساءل: كيف أكل الذئب يوسف دون أن يمزق قميصه بأسنانه؟!.
وأيقن يعقوب ـ عليه السلام ـ أن أولاده كاذبون وأن أنفسهم سولت ودبرت مؤامرة للتخلص من يوسف فلجأ إلى ربه واستعان به على شرور أولاده وتسلح بالصبر الجميل فقد أحس أن يوسف ما يزال حياً وتذكر الرؤيا التي قصها عليه فرفع يديه إلى السماء ودعا ربه أن يحمي يوسف ويرده إليه سالماً.
.. للقصة بقية.

ناصر عبد الفتاح