‏[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/abdellatifmhna.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]عبداللطيف مهنا كاتب فلسطيني [/author]
إن مستجد ابتكاراتها النضالية التي أفصحت عنها عملية بطلي يطا هو تحوُّل سكين المطبخ الفلسطيني إلى رشاش محلِّي الصنع، وقد يكون قد تم صنعه في مطبخ أيضًا، الأمر الذي يقول في هذه المرحلة، التي اختلطت في انحداراتها المفاهيم وغامت في أوهامها الرؤى، إن الكفاح المسلح، أو هذه الأيقونة النضالية الأولى، التي رسمتها المنطلقات الثورية التاريخية للثورة الفلسطينية المعاصرة، التي تخلى عنها الأوسلويون وغيَّبها أو كاد العجز الفصائلي.

فدائيو وفدائيات الانتفاضة الفلسطينية الراهنة... في مدها وجزرها مقترنًا بتواصلها وتطوُّرها، لجهة مواءمة وتكيُّف أشكالها وأدواتها ومبتكراتها الكفاحية مع متطلبات مواجهة واقع احتلالي قهري ومرير، وتحت طائلة ظروف بالغة التعقيد والقسوة في ظل معادلات محلية وإقليمية ودولية، إن هي إن لم تك مضادة بالكامل فأغلبها واقعًا يعمل لصالح الاحتلال...هم بالضرورة نتاج موضوعي لرد مستوجب استدعته مواجهة مثل هكذا ظروف. وبالتالي، هم خلاصة منطقية لعناد نضالي مذهل واعٍ لذاته ولطبيعة عدوه، وفوقه، هو ليس بغير المدرك لجسامة مختلف المعادلات والتقاطعات والتعقيدات المعادية من حوله... إنه عناد ما كان إلا لما راكمته عقود من أتواق وانكسارات ومقارعة عذابات، وما كدسته تجارب مريرة عمدتها التضحيات الممتدة امتداد ما قارب قرن تواترت انتفاضاته وتعاقبت محطاته النضالية ولن يتوقف تواليها بدون حسم الصراع، ولن يحسم إلا بعودة الفلسطينيين لكامل فلسطينهم وعودتها كاملة إليهم باستعادتهم لها، والتي لن تكون إلا بدحر الغزاة المحتلين وتحريرها.
لا نقول إن هذا بالسهل أو المقترب، لسنا طوباويين، وإنما نحن إزاء واحدة من حقائق الجرح الفلسطيني، التي لم ولن تغطي سطوعها كل غرابيل العجز والخذلان حد التفريط فالتواطؤ لتصفية القضية الفلسطينية على الصعيدين الأوسلوي الفلسطيني والتسووي العربي، ودوليًّا، بمعنى غربيًّا، كل هذا الانحياز التاريخي المشهود، وكافة أشكال الدعم المستدام والتآمر التصفوي المتواصل، والبالغين حد مشاركة المحتلين عدوانيتهم وليس مجرَّد تغطيتها وحمايتها، بل والاستماتة في محاولة تثبيت وإدامة ورعاية جريمتهم الاستعمارية في فلسطين.
عملية تل أبيب الفدائية النوعية الأخيرة، التي كان بطلاها شهيدَيْ مدينة يطا الصامدة ابني العم محمد وخالد مخامرة، هي آخر تعابير هذه الحقيقة الفلسطينية جدًّا، والتي هي إذ تؤكد على ما تقدَّم، تؤشر على جملة من ثوابت تزكّيها فدائية ملتقطي الراية الفلسطينية الجدد من جيل ما بعد أوسلو، وتعمِّدها دماؤهم الزكية، وأولاها:
إن الانتفاضة، كشكل من أشكال المقاومة الراهنة للاحتلال، ليست خيارًا بقدر ما هي ضرورة نضالية لحماية قضية قيد التصفية، بمعنى حماية وجود وطني وتوسُّل سبل بقاء شعب، وعليه، فهي وإن عرفت من آن إلى آخر جزرًا، فإن موجاتها متلاحقة ومدها آتٍ من بعد كما هو حاله من قبل، إذ ما دام هناك احتلال فحتمًا تكون مقاومته، وهي لن تتوقف إلا بزواله.
والثانية، إن مستجد ابتكاراتها النضالية التي أفصحت عنها عملية بطلي يطا هو تحوُّل سكين المطبخ الفلسطيني إلى رشاش محلِّي الصنع، وقد يكون قد تم صنعه في مطبخ أيضًا، الأمر الذي يقول في هذه المرحلة، التي اختلطت في انحداراتها المفاهيم وغامت في أوهامها الرؤى، إن الكفاح المسلح، أو هذه الأيقونة النضالية الأولى، التي رسمتها المنطلقات الثورية التاريخية للثورة الفلسطينية المعاصرة، التي تخلى عنها الأوسلويون وغيَّبها أو كاد العجز الفصائلي، هي خيار الشعب الفلسطيني المناضل وطريقه الرئيس الموصل إلى فلسطينه وحريتها، وما خلاه من ضروب المقاومة لا تعدو روافد ترفده أو توازي مجراه. وإن هذا الشعب الفدائي الاستشهادي على مدار الصراع قادر دائما على إعادة الاعتبار لخياره هذا. لقد ظل الحريص على التذكير به كلما تكاثرت من حوله نواعق المبادرات التسووية، أو اطلت برأسها المكائد التصفوية... كأن يفاجئ الجميع كعادته بالمستجد من إبداعاته الكفاحية في هذا المجال، ومنها العمليات الفدائية الفردية التي أزرت بالقدرتين الاستخباراتيتين المتعاونتين، الصهيونية وأداتها الأوسلوية.
والثالثة، إن انتفاضة شعب مقاوم له كل هذا الموروث النضالي المديد، والقدرة الأسطورية على الصمود، والاستعداد غير المحدود لبذل أجلِّ معاني التضحية وأغلاها، تردفها عبقرية ابتكارية لأشكال ووسائل وأدوات النضال المتاحة والمتوائمة مع ظروفه القاهرة وجبروت جبهة أعدائه، تثبت، وفي مدها أو جزرها، أنها عصية على الوأد. وبالتالي، فهي إذ لن تنتظر، فصائليًّا، غيث وهم التقاء المساوم بالمقاوم دون التحاق الأخير بالأول، أو متخيل إمكانية توافق استحال على برنامج حد أدنى وطني بين من يتعاون مع عدوه ومن يرفع شعار مقاومته، أو حصادًا مأمولًا لمزمن التكاذب حول حكاية "المصالحة الوطنية"، قد أثبتت بهذه العملية النوعية المتحدية، توقيتًا ومكانًا وأداءً، حين طالت عمق المربع الأمني الصهيوني في القلب من تل أبيب، ومبعدة عشرات الأمتار من وزارة الحرب الصهيونية المتربع للتو على سدتها واحد من أشكال ليبرمان، محدودية قدرة البطش الصهيوني وفشل آلته القمعية الجهنمية...تماما كما أثبتت المقاومة اللبنانية انتهاء قدرة هذا العدو على مزيد من التوسع والاحتفاظ بما يحتله، وأثبتت غزة المحاصرة والمستفرد بها فشل آلة فتكه الهوجاء المنفلتة في الانتصار عليها.
...وأثبتت أن إرادة الصمود والمقاومة ورفض الاحتلال هي وحدها البلا حدود، ووحدها والتي إلى تطور وتجذُّر واستمرارية تزرى بقعقعة المحتلين المتوعِّدين بويل وثبور استنفدوا كل ما توافر في جعبتهم منه، وبإدانات السلطة الأوسلوية لعملياتها، هذه السلطة التي تهوَّد الأرض من تحت أقدامها وهي لا تنفك عن متابعة أمرين لا ثالث لهما عندها، التعاون الأمني مع المحتلين، واستجداء الحلول التصفوية ممن تسميها "العدالة الدولية"... هذه التي نصَّبت مؤخرًا مجرمًا من أمثال الصهيوني داني دانون رئيسًا للجنة القانونية لصرح عدالتها المنتظرة!!!
...كل هذا أثبتته، فماذا لو أُردفت بعصيان مدني... نعم، عصيان مدني لعله الآن بات من مستوجبات هذه المرحلة المصيرية، وكاستحقاق مكمِّل آن أوانه وأضحى مطلوبًا من شعب المفاجآت النضالية المذهلة لرفد ما تفاجئ انتفاضة فدائييه المستمرة أعداءه به.