إن ضرب الأمثلة من الأساليب والوسائل والطرق التربوية المهمة والضرورية والجوهرية لإيصال المعلومة وتبسيطها، ولتقريب المعاني والمفاهيم المجردة للأفهام بأشياء محسوسة مدركة لها صورتها وكيفيتها وماهيتها الحاضرة في الذهن وفي نفس المتلقي، وقد ضرب الله تعالى في القرآن الكريم الأمثلة الكثيرة وكذا النبي (صلى الله عليه وسلم) ضرب الأمثلة الكثيرة في السنة النبوية.
يقول الله تعالى:(وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) (الحشر ـ 21)، ويقول تعالى:(وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) (العنكبوت ـ 43)، ويقول تعالى:(ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) (إبراهيم ـ 2)، ويقول تعالى:(ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) (النور ـ 35)، ويقول تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضةٍ فما فوقها) (البقرة ـ 26).
ومن الأمثلة التي ضربها الله تعالى في القرآن الكريم الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، والكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، يقول تعالى:(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ، يُثَبِّتُ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّـهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّـهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم 24 ـ 27).
يقول الشيخ الشعراوي في معرض تفسيره لهذه الآيات الكريمة:(وبعد أن شرح الحق سبحانه أحوال أهل القُرْب والسعادة، وأهل البُعْد والشقاء، أراد عز وجل أن يضرب لنا مثلًا يوضح فيه الفارق بين منهج السعداء الذين عاشوا بمنهج الله، ومنهج الأشقياء الذين اتبعوا مناهج شتى غير منهج الله .. والمَثَل هو الشيء الذي يوضح بالجلي الخفي .. والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يضرب لنا الأمثال بالأمور المُحسَّة، كي ينقل المعاني إلى أذهاننا؛ لأن الإنسان له إلْفٌ بالمحُسِّ وإدراكات حواسه تعطيه أمورًا حسية أولًا، ثم تحقق له المعاني بعد ذلك.
والمثل الذي يضربه الحق سبحانه هنا هو الكلمة الطيبة، ولها أربع خصائص: فالخاصية الأولى، أنها شجرة طيبة، والخاصية الثانية فهي أن أصلها ثابت، كإيمان المؤمن المحب، والثالثة أن فروعها في السماء، وهذا دليل أيضًا على ثبات الأصل وطيب منبتها، أما الخاصية الرابعة فهي أن تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي: فيها عطاء المدد المدد الذي لا يعرف الحد ولا العدد، وهي تدل على صفات المؤمنين المحبين .. وبعد أن ضرب الحق سبحانه المثل بالكلمة الطيبة بيانًا لحال أهل القُرْب من الله والود معه واتباع منهجه، أراد انْ يذكُرَ لنا المقابل، وهو حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الله، وعن منهجه، فيقول سبحانه وتعالى:(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ..) وحين نقارن الكلمة الخبيثة بالكلمة الطيبة سنكتشف الفارق الشاسع، فالكلمة الخبيثة مُجْتثَّة من فوق الأرض؛ والجُثَّة كما نعلم هي الجسد الذي خرجتْ منه الروح، ومن بعد أن يصبح جُثة يصير رِمَّة؛ ثم يتحلَّل إلى عناصره الأولى.
إذن: فالاجتثاث هو استئصالُ الشيء من أصله وقَلْعه من جذوره، أما المقابل في الشجرة الطيبة فأصلها ثابت لا تُخلخله ظروف أو أحداث، والكلمة الخبيثة بلا جذور لأنها مُجْتثّة؛ وليس لها قَرار تستقر فيه.
لا ريب أن هناك فرقًا بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فرقًا بين الكلمة الحسنة والكلمة السيئة، فرقًا بين الكلمة الحانية والكلمة القاسية، فرقًا بين الكلمة اللطيفة والكلمة الجارحة، الكلمة الطيبة بناء وسعادة وإصلاح وتلاحم وتراحم، بينما الكلمة الخبيثة هدم وشقاء وإفساد وفتنة وشقاق.
الكلمة ينوعيَّها الطيب والخبيث لها تأثيرها وأثرها، لها دورها وثمرتها، إن كانت الكلمة خيرًا فعاقبتها خير، وإن كانت الكلمة شرًا فعاقبتها شر.
إن كانت الكلمة طيبة فثمرتها طيبة زكية زاكية، طعمًا ورائحةً وأثرًا، وإن كانت الكلمة خبيثة فثمرتها خبيثة عفنة منتنة، طعمًا ورائحةً وأثرًا، فالكلمة الأولى من رضوان الله تعالى تكون سببًا في سعادة قائلها وفوزه بالجنة، والكلمة الثانية من سخط الله تعالى تكون سببًا في شقاء قائلها واستحقاقه النار، فقد روى الإمام الربيع ـ رحمه الله تعالى ـ عن أبي عبيدة قال: بلغني عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة) (رقم الحديث : 724)، وعن جابر بن زيد عن النبي (صلى الله عليه وسلم):(إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها بلغت ما بلغت فيهوى بها في النار سبعين خريفاً) (رقم الحديث : 969) ـ والحديث رواه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي .. وللحديث بقية.

يوسف بن ابراهيم السرحني