المفتي العام للسلطنة:
آيات الكتاب العزيز جاءت حاضة على مراعاة حق الوالدين، وقد جعل الله برهما من طاعته وقرنهما بعبادته

ـ حقيق بالإنسان أن يتذكر حقها ويرعى صلتها ويحفظ ودها ويتقرب إليها بما يرضيها من البر والإحسان

إعداد ـ علي بن صالح السليمي:
من الخطب القيّمة والمتنوعة لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة والتي ألقاها طوال سنوات ماضية .. نطرح معك ـ عزيزي القارئ ـ اليوم هذه الخطبة بعنوان:(بر الوالدين سبب السعادة في الدارين)، حيث إن من أهم معالم الفكر لدى سماحته اعتماده على المنبر في الدعوة، الذي لم يكن معهوداً في عُمان في عصور سابقة ..
يستهل سماحته الخطبة قائلاً: الحمد لله الذي أمرنا بإحسان الصلات ورعاية القربات، وعظم حقوق الآباء والأمهات، وقرن رضاه برضا الوالدين، وجعل برهما سبب السعادة في الدارين، سبحانه له الحمد على ما أمر ونهى، وحضّ ووصى، وخلق وسوى، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأثني عليه، وأستغفره من جميع الذنوب وأتوب إليه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، أرسله بكل خير، ودعا عليه أفضل الصلاة والسلام إلى كل بر، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، وسار على نهجه، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد: فيا عباد الله إن من شأن الإنسان الترابط بين أصوله وفروعه، وهذا من مظاهر المدنية في هذا النوع من مخلوقات الله سبحانه وتعالى، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بمراعاة هذه الناحية لأن أمر الله عز وجل ينسجم مع الفطرة ولا يصطدم، ويأتلف مع الطبع ولا يختلف، فقد جاءت آيات الكتاب العزيز حاضة على مراعاة حق الوالدين، وقد جعل الله سبحانه وتعالى برهما من طاعته، بل قرن برّهما بعبادته، وفي هذا ما يدل على عظم حقهما في ميزان الإسلام، يقول الله تعالى:(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (الإسراء 23 ـ 24) ففي هذه الآيات الكريمة يعلمنا الله سبحانه وتعالى كيف نتعامل مع الآباء والأمهات، فقد وصى الله تعالى فيها أولا بأن يعبد سبحانه وتعالى ولا يشرك به، ثم ثنى بعد ذلك بتعليمنا أداء حق الوالدين، وبين سبحانه وتعالى أن من حقهما أن لا يتضجر أحد مما يصدر منهما في حالة الكبر؛ لأن الكبر مظنة صدور بعض الإيذاء منهما لولده غير أن الولد مأمور بتحمل ذلك من غير أن يتأفف، ومأمور بأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن يدعو الله سبحانه وتعالى بأن يرحمهما كما ربياه صغيرا، فهما قد تحملا أذاه في حالة صغره، وكانا يحنوان عليه، فكم من ليلة سهِراها، وكم من مشقة تكبداها لأجل هذا الطفل الصغير الذي أصبح رجلا كبيرا بفضل الله ثم ببرهما ورعايتهما له.
وقال سماحته: لقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يوجد في نفوس الآباء والأمهات من الحنو على الأبناء والبنات ما لا يوجد في أي نفس أخرى، ولذلك يفدّي الأب والأم ولدهما بنفسيهما، وبكل ما يملكان من مال، يجوعان ليشبع، ويعريان ليكتسي، ويتحملان كل مشقة ليرتاح، فهما جديران بأن يقابل إحسانهما بالإحسان، وقد قرن الله سبحانه وتعالى شكرهما بشكره في قوله:(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ((لقمان ـ 14)، ويقول سبحانه وتعالى موضحاً ما يجب على الولد من حق اتجاه والديه ولو كانا على الشرك (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (العنكبوت ـ 8) ذلك لأن فتية من الذين آمنوا كانوا يتعرضون لصنوف من الأذى من آبائهم وأمهاتهم الذين بقوا على الكفر رجاء أن يثنوا عن عقيدتهم، وأن يعودوا إلى جاهليتهم، وكان أولئك الفتية مع ما يكابدون صابرين على هذا الأذى، فأنزل الله سبحانه وتعالى ما يسلي قلوبهم، ويوصيهم بحق آبائهم وأمهاتهم وإن كانوا على الكفر ذلك لأن شركهم لا يمنعهم حقوقهم، وإنما يجب بجانب ذلك أن لا يطاعا في معصية الله سبحانه، ومن ذلك قوله عز من قائل:(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان 14 ـ 15).
مستشهداً سماحته بقوله: وضرب الله سبحانه وتعالى مثلين للناس: مثلا للذين يوفون حقوق الله سبحانه وتعالى، وحقوق الآباء والأمهات، ومثلا للذين يكونون بعكس ذلك، فهم لا يبالون بحقوق الله ولا بحقوق الآباء والأمهات، وبيّن مصير كل واحدة من الطائفتين في قوله:(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ، وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِين ((الأحقاف 15 ـ 18) فلينظر الإنسان ما الذي يرتضيه من هذين المصيرين؟ هل يرتضي أن يكون من الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من الجن والإنس، فصاروا يوم القيامة من الخاسرين؟! أو يرتضي أن يكون من الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون؟!.
وقد جاءت أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حاضة على مراعاة حقوق الأبوين ومحذرة من التقصير في حقهما، فالرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لا يدخل الجنة عاق لوالديه، ولا مدمن خمر)، وعندما سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أكبر الكبائر قال:(الإشراك بالله وعقوق الوالدين)، ويقول الرسول ـ عليه أفضل الصلاة والسلام:(أربعة نفر حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: العاق لوالديه، وآكل الربا وآكل مال اليتيم ظلما)، فهؤلاء حق على الله أن لا يدخلهم الجنة، وأن لا يذيقهم نعيمها إلا إذا تابوا وأحسنوا الصلة بالله سبحانه وتعالى وبآبائهم وأمهاتهم، وأدوا حقوق الله سبحانه التي فرضها في أموالهم، وجاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجل يستأذنه في الجهاد فقال له ـ عليه أفضل الصلاة والسلام:(أحي والداك؟ قال له: نعم، قال له: ففيهما فجاهد)، وجاء في الأحاديث ما يدل على أن من أحسن الصلة بوالديه كان من جزاء الله سبحانه وتعالى له أن يهبه في الدنيا ولدا صالحا يبره كما بر بوالديه، وأن من أساء السيرة في والديه فجزاؤه كذلك أن يهبه الله تعالى ولدا يبتليه به، يسيء معاملته كما أساء معاملة والديه.
واستكمل سماحته الخطبة قائلاً: الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أحمده تعالى بما هو له أهل من الحمد وأشكره، وأتوب إليه من جميع الذنوب وأستغفره، وأؤمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى أتباعه وحزبه إلى يوم الدين، أما بعد: فيا عباد الله إن الله سبحانه وتعالى قد جمع الوالدين في التوصية بهما خيرا، ثم بعد ذلك نبه على ما قدمته الأم من التضحيات وما كابدته من مشقات في الحمل بهذا الولد وفي مراعاته بعد ولادته، وفي هذا ما يؤذن بأن حقها أعظم من حق الأب، وقد جاء ذلك صريحا في حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فالله عز وجل يقول: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان ـ 14)، ويقول عز من قائل:(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) (الأحقاف ـ 15)، وجاء في الحديث الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما يبين أن حق الأم أعظم من حق الأب، فقد جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال له: يا رسول الله مَن مِن الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال له: أمك، قال له: ثم من؟ قال له: أمك، قال له: ثم من؟ قال: أمك، قال له: ثم من؟ قال له: أبوك ثم الأقرب فالأقرب، فانظروا كيف ذكر حق الأم ثلاث مرات، ثم عطف بعد ذلك حق الأب على حق الأم مرة واحدة بثم التي تقتضي المهلة والترتيب، ثم ذكر حقوق الأقربين فالأقربين، في هذا ما يدل دلالة واضحة على أن حق الأم أعظم الحقوق، فيجب على الإنسان أن لا ينسى أبدا حق أمه، وكيف ينسى حقها وقد كانت مضحية براحتها، وبكل عزيز لديها في سبيل راحة هذا الولد؟! لقد حملته كرها ووضعته كرها، ثم بعد ذلك اشتغلت بإرضاعه مدة طويلة، ثم اشتغلت بعد ذلك بتربيته، وسهرت عليه الليالي الكثيرة.
وختم سماحته الخطبة قائلاً: فحقيق بالإنسان أن يتذكر حقها، وأن يرعى صلتها، وأن يحفظ ودها، وأن يتقرب إليها بما يرضيها من البر والإحسان، وأن يواسيها بكل خير، وأن يتحيّل في الوصول إلى رضاها، فالإنسان يجب عليه ألا ينسى هذه الحقوق (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ( (الرحمن ـ 60) وقد روي أن رجلا لقي عبدالله بن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وهو يطوف بأمه على ظهره حول البيت العتيق، فقال له: يا ابن عمر أتراني قد أديت حقها؟ فقال له: لا ولا بطلقة واحدة، وقد روي أيضا مثل ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، روي أنه عليه أفضل الصلاة والسلام رأى رجلا يطوف بأمه، فقال له: يا رسول الله هل أديت حقها؟ قال له: لا ولا بزفرة واحدة، يعني أنه لم يؤدِ حق زفرة واحدة من الزفرات التي صدرت من الأم في حال الوضع، فكيف ينسى هذا الإنسان حقوق أمه؟! وكيف ينسى حقوق أبيه الذي حدب عليه؟! فاتقوا الله يا عباد الله، واستوصوا بآبائكم وأمهاتكم خيراً.

* (المصدر: موقع القبس الالكتتروني لعبدالله القنوبي)