أسلوب توكيد الفعل المضارع والأمر بالنون
يأتي أسلوب توكيد المضارع في القرآن الكريم كثيرا سواء أكان الفعل المراد توكيده مضارعا أم أمرا، وهذه ظاهرة لغوية واضحة في كتاب الله، وسوف نتناول هذا الأسلوب بشيء من التوكيد لنستجلي حقيقة هذا الأسلوب، ونقف على خصائصه اللغوية وسماته النحوية، وسوف نتناوله من النقاط الآتية:1 ـ مفهوم المضارع المؤكد بالنون، 2 ـ توكيد المضارع بالنون وجوباً وشروطه، 3 ـ جواز توكيد المضارع بالنون ومواضع ذلك، 4 ـ مواضع امتناع توكيد المضارع بالنون، 5 ـ ثم نتناول آخر الأمر الحديث عن توكيد فعل الأمر وحكم توكيده، ونبدأ بتوكيد المضارع.
ومفهوم توكيد الفعل بالنون: توكيد الفعل بالنون، يعني وضع النون في آخره، وفق أحكام خاصة، ويكون ذلك وجوباً أو جوازاً، أولا يجوز توكيده أو يكون توكيده ممنوعاً وفق التصور الآتي: يؤكد الفعل المضارع بنون التوكيد، وجوباً وفق تحقق الشروط الأربعة، وهي:(1) أن يكون الفعل واقعا في جواب القسم، (2) أن يكون زمن الفعل مستقبلاً، (3) أن يكون الفعل مثبتاً، (4) ألا يفصل بين الفعل ولام التوكيد فاصل، فإذا توفرت تلك الشروط كاملة غير منقوصة كان توكيده بالنون، أي مجيئها في آخر المضارع واجبة، وأمثلة ذلك:(وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) فكل الشروط الأربعة موجودة، فالفعل المضارع قد وقع جوابا لقسم، وزمنه استقبالي، لا حالي، وليس بين المضارع والقسم فاصل، والفعل مثبت لا منفي، ونحو:(ولئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكونًا من الصاغرين)، ونحو:(تالله لتسألن عما كنتم تعملون)، ونحو:(كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية)، ففي كل هذه الشواهد وقع الفعل المضارع جواباً لقسم، وورد مثبتاً، وجاء زمنه مستقبلاً، ولم يفصل بينه وبين اللام فاصل ومن ثم فالتوكيد واجب، بمعنى أنه لا بد من وضع النون في آخر الفعل، فإذا اختل شرط من شروط الوجوب دخلنا في الحكم الثاني، وهو الامتناع، فيمتنع توكيد المضارع بالنون إذا نقص شرط أو أكثر، فمتى يمتنع توكيد المضارع، ولا يجوز توكيده مطلقاً؟ ذلك نوضحه تحت عنوان مواضع امتناع توكيد المضارع بالنون، وهي تتمثل في نحو: (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً) حيث امتنع التوكيد بسبب أن المضارع للم يقع جواباً لقسم، ونحو قوله تعالى:(والله يعلم إنك لرسوله) حيث امتنع توكيد المضارع هنا لأنه لم يقع الفعل جوابا لقسم، فالجملة هنا خبرية خبرية، وفي نحو قوله تعالى: (ولسوف يعطيك ربك فترضى) امتنع هنا بسبب أن حرف التسويف أو التنفيس أو المستقبل قد فصل بين القسم، والفعل المضارع، ونحو قوله سبحانه:(ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) حيث امتنع التوكيد هنا لأن الفعل ماض، وليس مضارعاً، وكذا في نحو:(والله لسوف أشرح الدرس الآن)، حيث امتنع توكيد الفعل دالا الحال، ولا يدل على الاستقبال، ووقع كذلك الفاصل "سوف" بين القسم والفعل المضارع، فامتنع التوكيد لاختلال شرطين.
وأما عن مواضع جواز توكيد المضارع بالنون، بمعنى يجوز مجيء النون وعدم مجيئها فتلخص في أنه: إذا سبقه طلب، جاز التوكيد وعدمه، والطلب يشمل هذه تمنٍّ وترجٍّ وعرضٌ وتحضيضٌ واستفهامٌ ونهيٌ، وسنرجئ الحديث عن الأمر حتى لا يلتبس بالمضارع، ومن أمثلة ذلك: لتصل الفريضة في وقتها (المضارع مسبوق بلام الأمر ولم يؤكد) لتصلين الفرائض في وقتها، أو لأحرقن عليك بيتك (فالمضارع هنا مسبوق بلام الأمر، وقد أكد بالنون جوازاً)، ونحو: لا تُفْتِ دون علم (المضارع هنا مسبوق بلا الناهية ولم يؤكد)، لكن يمكن توكيده، فنقول: لا تفتين دون علم فإن ذلك مهلكة (فالمضارع هنا مسبوق بلا الناهية، وقد أكد بالنون جوازاً)، ونحو: هل تذهب إلى الكلية؟ (المضارع مسبوق بهل الاستفهامية ولم يؤكد هنا)، لكن أكد في قوله تعالى:(هل يذهبن كيده ما يغيظ) (المضارع مسبوق بهل الاستفهامية وقد أكد هنا)، وفي نحو: ليت كل مسلم يعرف فيؤديه بإخلاص وعزيمة (نرى المضارع هنا مسبوقا بليت التي تفيد التمني، ولم يؤكد)، لكنه أكد هنا في قولك: ليت كل إنسان يعرفَنَّ واجبه فيؤديه بصدق (المضارع مسبوق بليت التي تفيد التمني، أي تفيد إنشاء حصول الفعل على سبيل التمني، وقد أكد)، وفي قولنا: لعل الناس تدركَنَّ جلال القرآن فتطبقه، (المضارع هنا مسبوق بلعل التي تفيد الترجي وورد مؤكداً)، بينما في قولنا: لعل الناس تدرك مهمتها في الحياة فتعمل لها، (المضارع هنا مسبوق بلعل التي تفيد الترجي، وقد ولم يؤكد)، وفي العرض بألا في نحو قولنا: ألا تقرأنَّ القرآن فتعرف مطلوب دينك؟! (المضارع مسبوق هنا بألا التي تفيد العرض، وقد أكد)، أما قولك: ألا تفعل ما يطلبه والدك ولا تعصه؟ (فالمضارع مسبوق هنا بألا التي تفيد العرض، ولكنه لم يؤكد)، وفي استعمال أداة التحضيض (هلَّا) يجوز كذلك التوكيد وعدمه، نحو: هلا تصلينَّ العصر قبل أن يفوتك، (المضارع مسبوق هنا بهلَّا التحضيضية، وقد أكد)، ويمكننا كذلك أن نقول: هلا تغض بصرك عن رؤية ما لا يحل لك؟! (فالمضارع هنا مسبوق بهلا التحضيضية، غير أنه لم يؤكد)، وأما حكم فعل الأمر فإنه جائز التوكيد مطلقا، يؤكد أو لا يؤكد وفق السياق والظرف الذي قيل فيه، فحكمه الجواز مطلقاً، نحو قولك: نقول: اتل القرآن، واتلُوَنَّ القرآن (بنون توكيد ثقيلة)، واتلُوَنْ القرآن (بنون توكيد خفيفة)، وكذا نحو:(اسمع النصح، واسمعنَّ النصح، واسمعَنْ النصح)، وتوكيد المضارع بالنون في القرآن الكريم جاء على ما وصفت لك، فتجد في القرآن الكريم نون التوكيد الثقيلة في المضارع الذي توفرت فيه كل الشروط أكثر من نون التوكيد الثقيلة، حيث وردت نون التوكيد الداخلة على المضارع مرتين فقط في كل القرآن الكريم هما: (ولئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكونًا من الصاغرين)، ونحو:(كلا لئن لم ينته لنسفعن بالناصية)، أما بقية ما دخل منها في المضارع جوازاً أو وجوباً أو كثيراً فكانت نون التوكيد الثقيلة هي الحرف المؤكد به نحو:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)، ونحو:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)، ونحو:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)، ونحو:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، ونحو:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون)، ونحو:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)، وفي الجواز لوجود طلب مثل:(مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) وفي القلة جاء قوله تعالى:(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وهكذا تأتي صيغ المضارع بكل صوره: المؤكدة جوازاً ووجوباً وامتناعاً وكثرة وقلة، نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم، وأن يبصرنا بجمال لغة القرآن الكريم، وكمال تراكيبها ، وسعة أساليبها، إنه ولي ذلك، والقادر عليه، وكل عام وأنتم بخير، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

د/ جمال عبد العزيز أحمد
كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية
[email protected]