يجد المتتبِّع لخصائص العربية وطبيعتها مالا ينقضي منه العجب والإعجاب سواء في ذلك دقّتها في التعبير عن الحالات ، أم سَعَتها في بيان الفروق بين المتشابهات ،أم تجانسها في الأصوات والأوزان إذا ما سيقت في اتجاه بعينه، أو عقدت على ما يمكن تصنيفه في إطار ذي نسيج متَّفق اللون والغرض. إنك لتقع في مثل تلك الحال على اللفظة تناظر اللفظة ، والصيغة تجاري الصيغة ، والحرف يأتلف مع الحرف ، مما يوسِّع عليك في الأداء ، وييسِّر لك سبل الإفصاح والبيان ، فهناك أمثلة تتردَّد على الشِّفاه والأقلام وفيها من التشابه والاتفاق مالا يُنكر، لكنها لا تتطابق مع نظائرها تمام التطابق.
من هذا مثلاً : الإطار الدائري المتكوِّن حول الشمس والقمر ، فقد فرّقوا بين هاتين الصورتين بأن خصُّوا ما حول القمر باسم الهَالَة ، وما حول الشمس باسم الدَّارَة ، وجعلوا الاسمين بوزن واحد. وقد نصّ الجوهري في معجمه الصحاح على ذلك حين قال: ( وإِياة الشمس بكسر الهمزة : ضوؤها ، وقد تفتح. ويقال الأَياة للشمس كالهالة للقمر ، وهي الدَّارَة حولها ). وحين وجدوا أنّ هناك تشابهاً وتقارباً فيما يُخلِّفه البرد والحَرُّ من أَثَرٍ سمَّوا ما كان من الحَرّ اللَّفْح ، وما كان من البرد النَّفْح ، بتغيير حرف واحد . وقريب من هذا لفظتا : الدَّرَج ، والدَّرَك ، فالدَّرَجة : المِرقاة والمَرْتَبة ، والدَّرَج إلى فوق في أصل دلالته، أما الدَّرَك فإلى أسفل، ومنه قيل : إن الجنة درجات ، والنار دركات . فتأمل تناظر الصورة ، واتفاق الوزن ، وائتلاف الحروف إلا في واحد منها. وشبيه بهذا تخصيصهم حالة الضُّعْف عند الإنسان في عظامه أو أمره بلفظة الوَهْن ، ولغير الإنسان بلفظة الوَهْي، تقول : وَهَى السِّقاء أو الثوب أو الحبل يَهِي وَهْياً ، إذا استرخى ، فهو واهٍ . ووَهَنَ العظم يَهِنُ وَهْناً فهو واهِن ، إذا ضَعُفَ ، ومنه الوَاهِنَة : للقُصَيْرَى من الأضلاع التي تلي الشاكِلَة ، والوَهْنَانَة : المرأة القليلة الحركة الثقيلة القيام والقعود ، وقيل : هي الكسلى عن العمل تنعُّماً. ومما يأتلف مع هذا الضرب المتشاكل من التسميات والصفات قول العرب عما يحلو في الفم : حَلا في فمي ، على حين يقولون : حَلِيَ في صدري ، فقد نقل الجوهري عن الأصمعي قوله : حَلِيَ في عيني وبعيني وفي صدري وبصدري إذا أعجبك بالكسر ، وحَلا في فمي بالفتح . وهم يسمون الوُعُورة ، أو صعوبة المسلك في الأماكن المختلفة بما يناسبها فيميِّزون بينها في كل حال. يسمونها في الجبل وُعُورة ، وفي الأرض إذا غلُظت وكانت بيِّنة الخشونة يسمونها حُزُونة ، أما على الرمل إذا كانت فيه سهولة ورخاوة فيقولون : فيه وُعُوثة.
ولا يخفى على المتأمل ما ينتظم هذه الألفاظ من تقارب الصفة ، وتوافق الوزن والوقع ، وهي تصوِّر حالات تكاد تكون طَبْعاً يتّسم بشيء من الثبات والتمكّن في صفات الأرض والإنسان ، يجري التعبير عنها بصيغة واحدة هي وزن فُعُولة ليؤدي بها المعنى للشيء ونظيره ، أو نقيضه ، فهو في الطبيعة : الخُشُونة ، والوُعُورة ، والحُزُونة ، ثم السُّهُولة ، والوُعُوثة ، واللُّيُونة ، وفي الإنسان نجد أمثلة كثيرة تناظر هذه كالبُطُولة ، والطُّفُولة ، والنُّعُومة ، والخُصُومة ، والرُّعُونة ، والأُنُوثة ، فتأمّل ما انطوى تحت جناحي هذا الوزن من دلالات متباينة تحتشد فيها ألوان من طبيعة اللغة ، والأرض ، والإنسان.

د.أحمد بن عبدالرحمن بالخير
أستاذ الدراسات اللغوية بكلية العلوم التطبيقية بصلالة
[email protected]