في ظل الانفلات الثقافي وضياع الهوية المحلية، وتفكك قوالب الأصالة والمعاصرة، أصبحت المحافظة على القيم الأصيلة والثوابت الإنسانية أصعب ما يكون!.. وفي عرض مسرحية "حرب الجراد" للمؤلف الإماراتي محمد العامري، ومن إخراج الخويصري وذلك خلال فعاليات مهرجان المسرح العماني الخامس بمحافظة البريمي .... و استطاع هذا العرض أن يصور الغزو الثقافي والإعلامي عبر العولمة بكل امتدادها الاقتصادية والسياسية على منطقة الخليج العربي. ليقول لنا أن المدنية والتحضر جعلت القيم الإنسانية تبهت وتتلاشى مع الأيام . ولقد قولب المؤلف موضوع المسرحية في شكل مسرحي لا يخلو من شذرات المذهب الملحمي، انطلاقا من كون الموضوع المقدم يجمع بين الاقتصاد والسياسة، حيث يمكن مشاهدة التاجر الذي يبيع ويشتري تراب وطنه ..فهو لا يهمه الغريب أو الجراد، بقدر ما يهمه الربح المادي!
ويمكن أن تلمس الطابع الملحمي الذي تخلل العرض الشعبي خلسة، من خلال شخصية "الراوي" الذي كان يتحدث عن واقعة "الجراد" بصورة غير تقليدية، قدمت على هيئة "لوحات" يغلب عليها طابع التغريب في الأداء التمثيلي: " الراوي: الأقدار تكتب .. وفي اللوح مكتوب... حالي وحالك... كيف نبدأ؟؟؟ ... وكيف شكل النهاية ؟؟ ...مثلي ومثلكم.. آلاف كانوا.. وآلاف من صغرنا ونحن نلعب على السيفة.. سيفة فريجنا .. الله يا فريجنا... الله على ناسنا.. وهوانا وبحرنا .. الله على تراب براحتنا."
ويستمر الراوي في سرد الأحداث المرتبطة بحياة الصيادين والبحارة، والتي التمست من حياة البداوة والأصالة عنوانا لها حتى ظهور "الجراد" ، والذي أصبح هاجسا يقض مضجع أهالي القرية الساحلية : " ما الله بلاّ بلادنا بالطاعون .. الله بلاّ بلاده باليراد.. الله سيّر عليهم اليراد .. اللي ما خلالهم شي .. كلّ الخضر واليابس "...لا حول ولا قوة إلا بالله..
من الملاحظ بالنسبة لأسماء الشخصيات فقد وردت حسب طبيعة أدوارها في الحياة؛ فهناك البناي: وهو شخصية مهمة رفض التنازل عن تراب وطنه مقابل المادة، وهو يصر على مواجهة الجراد . ولقد تباينت الرؤى الرمزية حول مفهوم الجراد، حيث أن هناك الكثير من الصور الاستعارية التي تصور " الجراد " مثل الزحف العمراني والحضاري القادم من الخارج ...وفي العرض يمكن مشاهدة استخدام "المؤثرات البصرية" كالإضاءة والموسيقى وهما تجسدان هجوم الجراد الذي يأكل الأخضر واليابس.
كما ظهرت في العرض شخصية "الطواش" أي ناقل الأخبار السريع بين الناس : "الطواش: عيل ما شي غير انا نحرق "الشير" والتراب المزروع فيه واللي مب مزروع فيه وللا نلبس عبي ونشرد من البلاد مثل ما سوى "....أما الشخصية الأخرى التي برزت في الأحداث فهي شخصية "فرج البناي" وهي من الشخصيات التي مثلت تيارا مغايرا لشخصيتي " الغريب والطواش" ، واللذين تنازلا عن تراب وطنهما بكل سهولة!... بينما هو لم يتنازل حتى آخر لحظه!...ويمكن مشاهدة فرج البناي وهو يجمع حفنة التراب :"فرج البناي: من يضحك على حزني . لا يضحك على أمي . ترا خيول العز وصلت .. تزحف .. تضرب بحوافرها ..وبتغرقكم في نعمة .. وبتقطع وصل الشوق للماضي .. تحرق ملامح الشمس في تبعثر اوراق السكيك ..وتعري اليدرة من قصايد الصخام..اللي ياي عز بارد ما يدفي .."
فيما ظلت سلطة "الراوي" تفرض ظلالها على الأحداث والفصول ، حيث يمكن مشاهدته وهو يعلق على الأحداث، ويسترجع الماضي الجميل، حيث ذكريات الأمس: " الراوي : قوموا .. عرس الجراد الليلة .. يا أهل الله معرسكم وصل .. زفوا نخلتكم .. واغزلوا لها نعش من جريد .. قوموا .. زفوها .. معرسكم وصل .. ياأهل الله عرس الجراد الليلة .. قوموا ... قوموا...فيما أكد "سلمان الغريب" ضياع القيم الاصيلة والنبيلة ، وتحولها إلى كتل حديدية نتيجة الزحف العمراني والتمدن الحضاري :"سلمان الغريب: ترى قالولكم بدل الرمل بيبولكم حديد.. بيوتكم حديد .. ثيابكم حديد.. سوالفكم حديد .. وبتغنون الحديد.. وبتركبون الحديد بدل البهايم يا بهايم .. سامحني طال عمرك"
وهكذا يبرز الصراع بين أهالي الديرة بين مؤيد ومعارض نتيجة التطور والتغير الذي سيكون ثمنه بيع تراب الفريج أو القرية دفاعا عن الجراد....حيث ظهرت شخصيتي الطواش والغريب كشخصيتين انتهازيتين :" سلمان الغريب: بتبيع حياك الله واذا مهون ترى غيرك خايف ويبا يبيع...فرج البناي: وانته شو يخصك ؟...الطواش: يخصه ونص .. هذا بدل ما تحمدون ربكم وتشكرون هالريال .اتقومون اتراددونه... لا تأخرونا وتأخرون يية الحديد ".
*فيما يتداخل الراوي معهم في سرد الأحداث والتعبير عن المعاناة ، نتيجة ضياع البلاد في اطار العولمة والتغيير السريع :الراوي : "بيع ابوي بيع .. الله يرحم هذيج الأيام .. أيام ما كنت أنا النوخذة.. أنت... ما اشتريت ولا بعت.. لكن آه منك يا زمن... ديرتك مختلة .. خلت العالي سافل .. والسافل عالي وضيعت الطريج وصار ...الخسيس للرياييل دليل "
وفي المقابل، يظل "فرج البناي" متمسكا برأيه، فهو لا يبيع وطنه أو يفرط فيه، مستمر في التمسك بمبادئه رغم تأثر أهالي الساحل بالمادة، حيث بدأت حضارة "الاسفلت" و "الاسمنت" تقضي على سطوة الطبيعة حيث الرمال الذهبية والطبيعة البكر...فيما ظل متمسك برأيه ....بعدم التفريط في أرضه:" فرج البناي: قلتلكم ما ببيع يعني ما ببيع ...الدفتر: واليراد ؟...سلمان الغريب: الله اكبر عليه من يراد .. جمر من نار جهنم..فري البناي: الله اكبر عليك .. اليراد .. خلوه تراه بيحل على ارضي انا .. وانا بروحي اللي بحاربه وبوقف في ويهه..
فيما صاغ المؤلف في نهاية عرضه بصورة تراجيدية نتيجة طغيان العمران والخرسانات الأسمنتية، وتراجع الحياة الفطرية والبدوية التي انتهت بهجوم الجراد ..وبذلك تكون نبؤة فرج البناي قد تحققت :" فرج البناي: ويانا الطاعون وذبح اللي ذبح ومر علينا الجدري ..وسنة الطبعة
والحريجة العودة اللي كلت البلاد ..وعقبها يانا اليراد ..يراد ... ما خلا شي في البلاد ..حرقنا الشير وهدمنا البيوت.. وبعنا سكيكنا... وطوينا سوالفنا.. ونبشنا قبورنا.. ويبنا الحديد عشان نواجه اليرا..لا الحديد نفعنا ولا اليراد طلع من البلاد .. وفي يوم من الايام"
بالنسبة للرؤية البصرية للعرض فقد وظفت "المدرج" الذي كان يتوسط خشبة المسرح، فيما تمكن المخرج الشاب من تحريك المجاميع بصورة أفقية وعمودية جعلت الممثلين يتغيرون حسب الموقف، ويفعلون الحالة النفسية للشخوص. و ظهر ذلك خلال " التمسرح" بينما الراوي كان يسرد تفاصيل القرية التي فقدت رونقها بسبب "الجراد التكنولوجي" الذي بدا يغزو العالم، وأصبح كل شيء معلب ويخضع لنظام العولمة العقيم . ورغم شاعرية النص والحوارات السردية الطويلة، إلا أن الممثلين تمكنوا من تفعيل الخطاب المسرحي وتكثيفه مع الحفاظ على النقلات الزمانية والمكانية ، واستطاعوا تقديم عرضا مسرحيا يتسم بالأداء الجيد وقوة الطرح .. ..والذي ساعد على ذلك هو الحركة الحرة على خشبة المسرح، كما دأب المخرج مع طاقمه الفني إقصاء الديكور التقليدي الذي كان من شأنه أن يثقل الفضاء المسرحي . كما تضمن العرض عددا من الأهازيج البحرية والصيد والغوص ...إضافة إلى النقلات السريعة على مستوى الأداء والحركة ...فيما شهد النصف الأول من العرض المسرحي تكرار الحوار السردي، ولكن المخرج استطاع أن يسخر السينوغرافيا العامة للعرض للتخلص من الممل والتنويع ، إضافة إلى توظيف المؤثرات الصوتية والموسيقية من جراء التحول على مستوى الأداء والسينوغرافيا .
كما ظهرت "الإضاءة" كمؤثر مهم في صنع الديكور في عمق المسرح ، حيث عبرت الأضواء عن المدنية وأبراجها ...والتأكيد بأن الجراد قادم لا محالة . وأن المدنية ورأس الاستثمار "الغريب" دمر الحياة الفطرية الأصيلة، فيما لم يكن "الغريب" أمينا على ذلك التراب الذي يباع بثمن بخس ، حيث أن الآخر سعى إلى تسويقه وبيعه للآخرين كأي بضاعة تباع وتشترى !
ورغم استمرارية المشهد المسرحي في رسم الصورة السلبية للمدنية ، إلا أن طول النص، والحوارات الشعرية ...جمدت الفعل...وجعلته يدور في لجة اللغة الشعرية ذات الصلة بحياة البحارة...فيما غاب "الدراماتورج" الذي كان من الممكن أن يكثف اللغة الدرامية وجعلها تعبر بسهولة عن وجهة نظرها .
فضلا عن ذلك فإن هذا العرض و لم يغفل "الماكياج والأزياء" التي جعلته يتماهى مع البيئة الساحلية القديمة، حيث لباس الصيادين ...إضافة إلى " الكورس" الذي كان يؤدي الرقصات التعبيرية ...وجميع ذلك تتنبأ بغزو الجراد القادم، الذي أصبح لا محالة....وختاما فرض المخرج "الواقعية" على عرضه عندما جلب رملا حقيقيا إلى الخشبة...وجعل فرج البناي يتمدد فيه...وكأنه يريد أن يكرر ويؤكد رسالة العرض أكثر من مرة .

عزة القصابية كاتبة وناقدة عمانية