[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
لم يكن أحد يتوقع أن يحسم البريطانيون أمرهم وينحازوا إلى "لا" لبقاء عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي بنسبة 51.9 في المئة مقابل 48.1 لـ"نعم" لبقائها، ذلك بالنظر إلى حجم الضغوط التي مورست، سواء من قبل المؤيدين للبقاء من البريطانيين أنفسهم وعلى رأسهم ديفيد كاميرون رئيس الوزراء وأعضاء حكومته، أو من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي كألمانيا وفرنسا، أو من خارج الاتحاد كالولايات المتحدة التي قام رئيسها باراك أوباما بجولة مكوكية خاصة لإقناع الشعب البريطاني بالمكوث تحت ربقة الاتحاد الأوروبي، وهو ما عده البريطانيون تدخلًا أميركيًّا سافرًا في الشؤون الداخلية للمملكة المتحدة.
وعلى الرغم من حجم الضغوط التي سبقت الاستفتاء وصاحبته حتى في يوم إجرائه بتشجيع الشباب البريطاني على التصويت بكثافة وإغرائهم بالمكاسب العديدة التي سيجنونها من بقاء بلادهم في الاتحاد لترجيح كفة المؤيدين للبقاء على الرافضين المتمثلين في كبار السن على مختلف توجهاتهم ومشاربهم، وسكان المناطق الفقيرة، فإن الاستفتاء لا يعبِّر فقط عن ديمقراطية مترسخة لدى الشعب البريطاني، وإنما يعبِّر أيضًا عن قوة الصوت الداعي إلى الاستقلالية والرافض للتبعية المطلقة على حساب الهوية والمصالح الوطنية والقومية، مع أن الخبراء يعتقدون أن هناك تغييرات مقبلة عليها بريطانيا من شأنها أن تدعو إلى القلق من بينها: زيادة تكلفة الرحلات إلى الخارج، وعدم حصول تغير سريع في حالة الهجرة التي هي من الأمور التي لا تزال تثير امتعاض البريطانيين، وكذلك زيادة التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة، وممارسة التجارة بقوانين جديدة، والركود الاقتصادي.
على الجانب الآخر، لا تبدو تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بسيطة أو قليلة التأثير، بل على العكس من ذلك تمامًا، بدليل حالة الهلع والقلق التي أصابت الأوروبيين الرسميين تحديدًا، وأصابت الأميركيين في مقتل دون شك، من هذا الخروج. فقد حدد مجلس الاتحاد الأوروبي يوم الثلاثاء الـ28 من يونيو، لعقد اجتماع طارئ بصدد قرار البريطانيين التاريخي ومناقشة العواقب المترتبة على ذلك، واصفًا المجلس نتائج الاستفتاء في وقت سابق بالدرامية، لكنه لم يكن مستعدًّا للعواقب. وأما كل من ألمانيا وفرنسا عقدتا اجتماعًا طارئًا على مستوى الحكومة لمناقشة تداعيات هذا القرار، في حين علَّق نائب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وزير الاقتصاد، سيجمار جابرييل، على نتائج التصويت عبر تغريدة له على موقع تويتر، قائلًا: "اللعنة! يوم مشؤوم لأوروبا". أما سفير الولايات المتحدة السابق لدى روسيا مايكل ماكفول فقد وصف نتائج الاستفتاء بانتصار فلاديمير بوتين، حيث كتب في حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر": "صدمت بنتائج الاستفتاء، كل من يؤمن بقوة ووحدة وديمقراطية أوروبا خسر، أما بوتين فقد فاز".
لا أحد ينكر أن الاتحاد الأوروبي كمنظومة وحدوية في بدايات تشكله كان مثار إعجاب وطموح للعديد من الكيانات بأن تحذو حذوه نحو إقامة شراكة سياسية واقتصادية تسعى إلى التكامل الشامل في السياسات المختلفة، وتعزيز التبادل التجاري، وتنسيق المواقف السياسية تجاه تطورات الأحداث التي تشهدها الساحة الدولية، إلا أن هذه التجربة الأوروبية الرائعة في بداياتها تبين فيما بعد أنها لا تريد الفكاك من التبعية المطلقة للكاوبوي الأميركي ومغامراته في العالم، ولا تريد أن تكون أوروبا بتكتلها السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري وفق اتحادها هذا قارة مستقلة وذات سيادة وقرار مستقل يقدِّم المصلحة الوطنية والقومية للشعوب الأوروبية، ويخدم مصالحها واستقرارها ويوفر لها الأمن والطمأنينة، بل فضلت أوروبا على ذلك أن تبقى مطية يستنيخها الكاوبوي الأميركي لخدمة مغامراته وحماقاته ومشاريعه الاستعمارية والتدميرية والتخريبية في العالم والشرق الأوسط، فلا تزال القارة العجوز تدفع أثمانًا باهظة لحماقات الكاوبوي الأميركي ومغامراته على حساب اقتصادها ومصالحها القومية والوطنية، حيث تعاني خزائن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا إلى استنزاف كبير من أجل إنجاز مشاريع التخريب والتدمير والاستعمار للأميركي الذي نجح في اختلاق عدو من العدم اسمه روسيا الاتحادية، في حين أن العلاقة بين دول أوروبا الغربية وروسيا الاتحادية تتميز بالهدوء وبالمصالح، فضلًا عن أن موسكو كانت تسعى إلى بناء شراكة اقتصادية وعلاقات دبلوماسية قائمة على احترام المصالح وتبادل المنافع وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. ولو كان القرار السياسي الأوروبي مستقلًّا وتتمتع القارة العجوز بسيادة ولو نسبية وترفض الانبطاح أمام نزوات الكاوبوي الأميركي لكان وضع أوروبا اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا اليوم مختلفًا، حيث الاقتصادات الأوروبية لا تزال تتكبد خسائر فادحة جراء الانجرار وراء السياسات الأميركية بفرض عقوبات على روسيا الاتحادية ما حرم هذه الاقتصادات من سوق ضخمة تمثل الصادرات الأوروبية الزراعية والصناعية أولوية لدى المواطن الروسي والسوق الروسية. وإمعانًا في التبعية المطلقة، وبدلًا من أن تنظر حكومات القارة العجوز لنداءات شعوبها وخاصة الزراع والصناع بعدم الانجرار وراء السياسات الأميركية، ضاعفت إنفاقاتها العسكرية لحلف شمال الأطلسي مطلقة العنان لنزوات الكاوبوي الأميركي في سباق التسلح وسياسة الحصار والتطويق التي يريد فرضها على روسيا الاتحادية، في حين على الجانب الآخر بدأت مسألة الهجرة المتوالية واكتظاظ أوروبا باللاجئين والمهاجرين والأعباء الإضافية التي تتكبدها خزائنها، ومسألة ارتهان رقبتها للإرهاب، سواء بتشجيعها التنظيمات الإرهابية وتولي دعمها في المنطقة وممارسة الخداع والكذب على شعوبها بأن ما تدعمه من تنظيمات إرهابية هو "معارضات معتدلة" انسياقًا واتباعًا لإملاءات سيدها الأميركي، أو باندساس عناصر تنظيمات إرهابية وسط اللاجئين والمهاجرين، بدأت مسائل تفرض هواجسها. ولعل بدء الإرهاب رحلة العودة من حيث أتى، والمشاكل الاقتصادية الهائلة التي تعانيها دول الاتحاد الأوروبي كاليونان والبرتغال وأسبانيا وإيطاليا وغيرها يعدان أهم ملفين يؤرقان أوروبا، فبقدر ما تتحمله الدول الغنية والقادرة في الاتحاد الأوروبي كألمانيا من مساعدات للدول الأعضاء المتعثرة اقتصاديًّا، بقدر ما يعلو منسوب القلق والخوف من ارتدادات الإرهاب وحدوث هجمات إرهابية، فهناك هجمات إرهابية تعرضت لها عواصم أوروبية كباريس وبروكسل، وعمليات ضبط شبكات ومخططات إرهابية تكاد شبه يومية.
الخلاصة هي أن الاتحاد الأوروبي هو مشروع لرؤية أميركية ليكون القوة الرديفة أو الذراع اليمنى في سياسة الهيمنة التي تقودها الولايات المتحدة ومحاصرة روسيا والصين، وكل المنافسين، والمشروع هذا وفق الرؤية الأميركية أنه القادر على احتواء الدول المنحلة من الاتحاد السوفيتي السابق، وبالتالي ليس صحيحًا كل ما قيل ويقال عن أن هذا الاتحاد هو القوة الثانية الصاعدة اقتصاديًّا وسياسيًّا إلى جانب الولايات المتحدة. الاتحاد فشل في تحقيق مشاريع واشنطن في أوكرانيا وسوريا وغيرهما، وبقدر ما سيكون حملًا ثقيلًا على ألمانيا سيكون تفككه كارثة على أميركا. فهل سيكون الرابع والعشرون من يونيو 2016 يوم الاستفتاء البريطاني هو ولادة جديدة لأوروبا؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.