تكـريـم الله للإنسان (107)
الحمـد لله والصـلاة والسلام عـلى سـيـد خـلـق الله وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه، وعـلى مـن تبعهـم بإحـسان إلى يـوم الـدين وبعــد :
فـيقـول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (النساء ـ 1).
مـن نفـس واحـدة، هـو أبـو الـبشر النبي آدم عـليه السـلام، وخـلـق منها زوجهـا هي أمـنا حـواء، ثـم جـاء الأولاد والأحـفاد، وتـكاثـر الـبشـر بعـد ذلك، فـكلنا لآدم وآدم مـن تـراب، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجـرات ـ 13).
وقال البـعــض:( .. وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) إشـارة إلى ما يـقـوله بعـض الـرواة مـن أن حـواء خـلـقـت مـن ضـلـع آدم، أخـذا مـن قـوله تـبارك وتعـالى:(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ..) (الأعـراف ـ 189).
ونحـن نعـلم يقـينا أن أبانا آدم ـ عـليه السلام، الـذي هـو الأصـل للبشـر خـلـق مـن تـراب ومـن طـين ومـن حـماء مسنـون، ومـن صـلصـال كالـفـخار بحـسـب الأطـوار التي يـمـر عـليها الـتراب إذا عـجـن بالـماء، كـما هـو معــروف، فالأصـل الأول هـو الـتراب ثـم إذا عـجـن بالـماء صار طـيناً، وإذا تـرك الطــين مـدة صـار حـمأ مسـنـونا ذا راحـة منـتـنـة,
والناس إنـما يـتركـون الطـين مـدة حـتى يـتماسك ويصـير صالحـاً للـبنـاء، أو لأي صـناعـة معـينة، وبعــد ذلك صــورت مـنه صــورة إنسان فـكان كالـفـخـار، ثـم خـلـقـت حــواء، هـل مـن بـقـية طـين آدم؟، وهـذا ما لـم يقــل به قـائـل، ولـم يـرد بـه أثــر.
وإنما قـالـوا: خـلـقـت حـواء مـن ضـلـع آدم، بـل قالـوا: مـن ضلـعـه الصـغــير الأيسـر، واشـتهـر هـذا وتـواتـر عـنـد المحـدثـين والمفـسـرين، ولكـن لا تعـتـقــدون هـذا أمـراً يقـينـيا، إن هـي إلا رواية لا تصـدق ولا تكـذب، لأنـنا لا نجـد في الـقــرآن الكـريـم دلـيـلاً عـلى هـذا ولا عـلى نقـيـضـه، وإن قالـوا: إن هـذا مـذكـور في الـتـوراة ليـس أمـامنا إلا السـنة ، فـهـل صـح عــن النبي (صلى الله عـليه وسـلم) شـيء في هـذا؟ قالـوا: إنه صـح عـنه (صلى الله عـليه وسـلـم) قـوله:(خـلـقـت الـمـرأة من ضـلـع أعــوج، إن أردت أن تـقـومها انكـسرت) عـلى خـلاف في الـروايات، ونص الحـديث عـنـد البخـاري: عــن أبي هـريـرة ـ رضي الله عـنه ـ عــن النبي (صلى الله عـليه وسـلـم) قال:(مـن كان يـؤمـن بالله واليـوم الآخـر فـلا يـؤذي جـاره، واسـتـوصـوا بالـنـساء خـيرا، فإنهـن حـلـقـن مـن ضـلـع وإن أعــوج شـيء في الضـلـع أعـلاه، فإن ذهـبت تـقـيـمه كسـرته، وإن تـركـته لـم يــزل أعــوج، فاسـتـوصـوا بالنـساء خـيرا).
وجـعـل البعـض هـذا دلـيـلاً عـلى صـدق ما ورد في الـتـوراة، مـن أن حـواء خـلـقـت مـن آدم بيـنـما البـعــض: قــال لا يـدل الحـديـث عـلى كـون حـواء خـلـقـت مـن آدم، وإنما هـذا الحـديـث خـرج مخـرج التعـلـيـل، أي إن للـمـرأة طـباعـاً غـير طـباع الـرجـل ولها ضـرب مـن الضـعـف الخـلـقي، فهـي لا تصـب كـما يصـب الـرجـل، ولا تتحـمـل كـما يتحـمـل الـرجــل وهي سـريـعة التأثـر والانـفـعـال.
وهـذا الـذي أراده النبي (صلى الله عـليه وسـلـم)، فـشـبهها بالضـلـع، والضلـع مـعــوج، واعـوجـاجه اسـتقـامة في مـكانه، إذ لـولا اعـوجـاجـه مـا أدى وظـيفـته التي خـلـق مـن أجـلها ، ولا يـمكـن أن يـقـوم غـيره بـوظيـفـته، وهـو معــوج باعـتبار الهـيـئة، وإلا فـتـلك هـي اسـتـقـامته ، لأنـه لا يـؤدي وظـيـفـته في الجـسـم إلا بـذلك الاعــوجـاج.
أوصى بعـض الحكـماء بنيه، فـقـال يا بني:(الأدب أكـرم الجـواهـر طـبيعة، وأنفسها قـيمة، يـرفـع الأحسـاب الـوضـيعة، ويـفـيـد الـرغـائب الجلـيلة، ويعـز بـلا عـشيرة، ويكـثر الأنصار بغـير رزيـة، فـالـبسـوه حـلة، وتـزينـوه حـلية يـؤنسـكـم في الـوحـشـة، ويجـمع لكـم الـقـلـوب المخـتـلفـة).
ولـقـد ورد في بعـض الأدعـية: لا بـورك في طـلـوع شـمس يـوم لـم أزدد فـيه مـن الله عـلـما ، ولا بـورك لي في طـلـوع شـمس يـوم لـم أزدد فـيه مـن قـرباً، والإنسان بضـعـة أيام كـلـما انقـضى يـوم انقـضى بـعـض منه.
قال الشاعـر:
ليـس مـن مات فاسـتـراح بمـيـت
إنـما الميـت مـيـت الأحـيـاء

رأي الإمام عـلي في العـلـم: يـقـول الإمام عـلي بن أبي طالب ـ كـرّم الله وجهه:(الـعـلـم خـير مـن الـمال، العـلـم يحـرسـك وأنت تحـرس الـمال، العـلم يـزكـوا عـلى العـمـل، والـمال تنقـصه النفـقـة، العـلـم حـاكـم والـمال محـكـوم عـليه، وصـنيعـة الـمال تـزول، ومحـبـة العـالـم ديـن يـدان بهـا، والعـلـم يكسبه طـاعـة في حـياته، وجـميـل الأحـدوثـة بـعـد مماته، مـات خـزان الـمال وهـم أحـياء، والعـلـمـاء باقـون ما بقي الـدهـر، أعـيانهـم مفـقـودة ، وأمثـالهـم في القـلـوب مـوجـودة).
ويـقـول أحـد العـلـماء:(الجهـل هـو الـمـوت الأكـبر ، والعـلـم هـو الحـياة العـليا، وقـد ذكـر الله تعـالى الجهـل والعـلـم في القـرآن الكـريـم، فسماهـما حـياة ومـوتاً).
الشافي هـو الله: يحـكى أن مـريضا أصـيـب بمـرض خـبيـث في الـرئـتـين، وأخـذت قـطـعـة مـن رئـته إلى كل المخـابـر حتى أنهـم أرسـلـوا منه قـطـعـة إلى بـريـطانيا للتحـليـل، وجـاء التـشخـيـص:(إنه مـرض خـبيـث مـن الـدرجـة الخامـسة، ولا أمـل في شـفـائه مـن مـرضـه أبـداً، إلا بـزرع رئـة في أمـيركا، ونجـاح العـملـية نسـبته عـشـرون في الـمائة وتكـلفـة هـذه العـمـلية ثـمـن مـنـزله الـذين يـسكـنه، ولا يمـلك غــيره).
وقال الـراوي: إنه عـاصـر هـذه القـضـية، ويعـرف صاحـبـها، ويعـرف الأطـباء الـذين فحـصـوا تـلك القـطـعـة، وقـد أجـمع الـكل بأنه لا شـفاء مـن هـذا الـمـرض، ولـكـن وبقـدرة القـادر العـليـم الخـبير، بـدأ الـمـرض يـتراجـع شـيئاً فـشيئاً تـلقـائـياً وشـفي الـمـريـض، وكـيـف تـراجـع ذلك الـمـرض تـلقـائياً، ذلك بـقـدرة القـادر الحـيكـم والـمـريـض الآن يتـمـتـع بصـحـة جـيـدة ولا يشـكـو شيئاً.
فإذا اعـتـقـد الـمـرء جـازماً أن الله عـلى ما يشـاء قـديـر، فهـو الشافي لا غــيره، فهـو الـذي يحـفـظ ويـؤيـد وينـصـر، يـبتـلي مـن يشـاء بما يشـاء، ويعـافي مـن يـشـاء مما يـشـاء.
والـمـؤمـن الـذي يـعـرف الله تجـد كل حـياته عـطاء، يعـطي مـن وقـته ومـن جهـده ومـن ماله ومـن خـبراته ، يعـطي كل شـيء، فالأنبـياء أعـطـوا ولـم يأخـذوا مقـابـل ما أعـطـوا، إلا أن هـذا العـطـاء أسـاسه الإيمـان، يعـد صاحـبه لاجـتيـاز عـقـبات الآخـرة، فالـمـؤمـن طـمـوح جـداً، فإذا إنسان خـدمـك وقال لك: أريـد عـليها مـئة ريال لأن هـناك أشخـاصا يأخـذون الأجـر الـمـكا فيء لجهـدهـم تماما ، فإنه يعـرف قـيـمة جـهـده لـك يقـول: إن هـذا العـملـية تكلـف ألـف ريال، لـو افــترضـنا أن إنسانا فعـلها لـوجـه الله، أيهـما أكـثـر طـمـوحاً؟.
إن أكـثر طـمـوحـاً هـو الثاني: الــذي فـعـلها لـوجـه الله لأن عـطاء الله عــز وجـل لا حـد لـه ، الـذي يـقـول:(مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقـرة ـ 245)، ولا يخـطـر عـلى قـلـب بشـر يـوم الـقـيامة، فأساس الإيـمان مبني عـلى العـطـاء لا عـلى الأخـذ، وتعـيـش وتأكل وتشـرب وتـتـزوج وتـزوج أولادك .. وللحـديث بقـية.

ناصر بن محمد الزيدي