من أبرز سمات عقيدتنا الإسلامية السمحة أنها بشعائرها وعباداتها وتشريعاتها ومناسباتها المتعاقبة تحرك العقل وتدفعه وتستحثه إلى قيادة الإنسان إلى كل ما يصلحه ويعلي من شأنه، خاصة وأن رسالة الإسلام بدستورها الخالد وهو القرآن الكريم جاءت مخاطبة العقل الإنساني، مثيرة حوله العديد من القضايا والتساؤلات التي تحتاج إلى إعمال هذا العقل، ومثلما خاطبت العقل الإنساني عنيت أيما عناية بالمشتركات الإنسانية والمصالح.
هذان الجانبان يحظيان هذه الأيام الطيبة بالبحث والنقاش العلمي المثير من خلال ندوة تطور العلوم الفقهية في نسختها الثالثة عشرة (الفقه الإسلامي: المشترك الإنساني والمصالح) والتي انطلقت فعالياتها أمس بمباركة سامية من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ راعي مسيرة العلم والعلماء، حيث تمثل مضامين الندوة التي ينتظرها الجميع للتمعن فيها (المضامين) أكبر قوة دافعة لإعمال العقل وتعمير النفوس بالإيمان.
فالندوة بحضورها العلمي العظيم الماثل في ذلك اللفيف المهيب من خيرة علماء الأمة تمثل مناسبة طيبة لتلك العقول المفكرة والمبدعة للبحث فيما يشغل هذه الأمة ويهددها، والبحث فيما يرأب شعثها ويلملم وحدتها وتشاطر الآراء والأفكار والحلول في أجواء روحية مؤنسة، ووسط خصوصية في العيش والتسامح والتكافل والتراحم والتواصل وحميمية في العلاقة تعيشها بلادنا بين مواطنيها بعضهم بعضًا وبين مواطنيها وقيادتهم الحكيمة ممثلة في باني نهضة عُمان الحديثة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ، حيث غدت هذه الندوة الفقهية رمزًا ارتبط بعُمان التسامح ينتظرها العالم للوقوف على عنوانها الذي تتميز به.
ومثلما لامست الندوة في نسخها الماضية قضايا إنسانية وفقهية مهمة في الحياة، تلامس اليوم جانبًا مهمًّا يمثل أساس التعايش ويبرز قيمة الحياة ومعنى الإنسانية، ألا وهو المشترك الإنساني والمصالح، انطلاقًا من أن الذات الإنسانية من منظور ديننا الحنيف بروحانيتها ودنيويتها على السواء هي بوتقة لكل من أراد أن ينهل الحكمة من معينها، لذلك كان الدين وتعاليمه معنيًّا أشد العناية بالإنسان صاحب العقل الذي ميزه الله به ليستمد بوساطته حكمة الدهور والأعصر وليدرك قيمة المشاعر الإنسانية المتبادلة بين البشر وتأثير الحب والمودة بين الإنسان والإنسان على اختلاف الأجناس والعقائد، هذا الحب هو الذي يحفظ النفس والمال والعرض والوطن والرصيد الغالي من التراث الإنساني المنقول، الإنسان بقوته وضعفه، بعقله وعاطفته، بمنظور الحقوق والواجبات في سلوكه حيث يبني رصيده المجتمعي عبر منظومة من القيم السامية يتوافق عليها مع الآخر في إطار من إحسان القول والفعل. وقد وضعت كلمة افتتاح الندوة النقاط على الحروف بتأكيدها على أن المشترك الفطري والإنساني في الإسلام يتجلى من خلال أمرين اثنين: القيم القرآنية، والمصالح الضرورية لدى علماء أصول الفقه. أما القيم القرآنية فأساسياتها الواردة في القرآن الكريم وهي: المساواة والرحمة والحرية والكرامة والعدل والتعارف والخير العام. وأما المصالح الضرورية فهي الحقوق الخمسة: حق النفس وحق العقل وحق الدين وحق العرض وحق الملك.
إن ما يشهده العالم اليوم ـ وخاصة العالم الاسلامي ـ من مخاطر ومنزلقات هو نتيجة لابتعاد بعض بني البشر عن المنهاج القويم والفهم الصحيح للإسلام، في حين أن الرصيد العربي والإسلامي يزخر بأروع القيم والمبادئ الإنسانية وأسباب التعايش والتسامح والتكافل والرحمة والتواصل والألفة وقبول الآخر ولو كان مخالفًا، وكذلك من خلال ما يزخر به الرصيد العربي والإسلامي من حكم ممثلة في آيات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وما بعدهما من حكم صاغتها عقول الحكماء والعلماء.
إن ندوة تطور العلوم الفقهية في نسختها الثالثة عشرة (الفقه الإسلامي: المشترك الإنساني والمصالح) تمثل فرصة عظيمة لتغيير الأفكار السلبية والسلوكيات المنافية لقيم الإسلام ومبادئه وتصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلامية وأتباعه، وتبيين معاني التسامح والتعايش الإنساني وقيمة الأمن والاستقرار من خلال المشتركات الإنسانية والمصالح.