[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
إن مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي جاءت كأنها زلزال يهز كيانات الدول الأعضاء ويهدد حوض البحر الأبيض المتوسط بالمزيد من الأزمات. فالاتحاد لم يساعد على حلحلة المعضلات القارية ولا الإقليمية ولا الدولية التي واجهت العالم، وأثبت أنه عوضا عن أن يكون كتلة متماسكة قوية تحول إلى مجرد حزمة من الأنانيات الوطنية لا تستقر على قرار، بل ضربتها موجة التهميش والارتجال.

كان يوم الخميس الـ23 يونيو جوان يوما فاصلا وعاصفا في تاريخ أوروبا والعالم، حيث قررت أغلبية طفيفة ولكنها شرعية من الشعب البريطاني مغادرة الاتحادالأوروبي نهائيا وبدون رجعة، وبدأ يتصدع أكبر مشروع وحدوي ناجح في الغرب ليدشن مرحلة سقوط قد تطول لكنها لن تتعطل. فالاتحاد الأوروبي بدأ سنة 1957 بمجرد إنشاء سوق أوروبية موحدة تختصر الإجراءات الجمركية وتيسر التبادل التجاري بين ست دول فقط، كانت هي العمود الفقري للاتحاد، وهي مبادرة تحمست لها وجسدتها فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص لسبب منطقي مفهوم، وهو أن الدولتين اللتين تقاتلتا في حربين عالميتين دمويتين شعرتا بعقدة الذنب إزاء الأجيال الصاعدة، وشرعتا تعالجان الجراح العميقة النازفة وتضمدانها بمشروع سلام وأخوة جاء متأخرا. ثم شرع الأوروبيون يؤسسون لما هو أكبر وأوسع من السوق اقتداء بالولايات المتحدة التي هي أيضا اتحاد بين ولايات أشبه بالدول ولدى كل منها خصوصيات ومتطلبات، لكنها تجتمع على راية واحدة ورئيس واحد. واتسع الاتحاد الأوروبي بشكل عشوائي ودخل بالرغم عنه في قطبية جديدة ليعزز حلف الناتو ويكرس الزعامة الأميركية للغرب. ولكن هذا الانحراف الخطير توقف بفضل مبادرة الجنرال شارل ديجول رئيس فرنسا الذي رفض في الستينيات زعامة واشنطن وأعلن انسحاب باريس من حلف الناتو، واعترض على انضمام المملكة لسبب واضح وتاريخي، وهو أن الجنرال ديجول يعتبر عن حق بأن بريطانيا كانت وستظل إلى الأبد أطلسية ولا يربطها بالقارة الأوروبية أي رابط استراتيجي جدي ودائم. وقد تحققت تخوفات الجنرال ديجول سنة 1990 حين تزعمت واشنطن جيوش التحالف الغربي والعربي لتحرير الكويت وتزعمت بريطانيا في عهد توني بلير عمليات توحيد الدول الأوروبية لمساندة الولايات المتحدة في حروبها في الشرق الأوسط. لكن هذه الحروب لم تهدأ بتحرير الكويت بل امتدت بحماس المحافظين الجدد إلى مشروع الحرب ضد العراق وتدمير بلاد الرافدين لا نظام صدام وحل جيشها، مما انجر عنه خراب التوازن التقليدي السائد في الشرق الأوسط وعودة الصراعات الطائفية والعرقية والدينية إلى أعتى قوتها، وبرزت جماعات متطرفة اغتنمت الفوضى التي لم تكن خلاقة أبدا، وها نحن نعيش مرحلة من أخطر مراحل تفكك الأمم وانهيار الدول وعجز النخب على إيجاد الحلول. ثم إن مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي جاءت كأنها زلزال يهز كيانات الدول الأعضاء ويهدد حوض البحر الأبيض المتوسط بالمزيد من الأزمات. فالاتحاد لم يساعد على حلحلة المعضلات القارية ولا الإقليمية ولا الدولية التي واجهت العالم، وأثبت أنه عوضا عن أن يكون كتلة متماسكة قوية تحول إلى مجرد حزمة من الأنانيات الوطنية لا تستقر على قرار، بل ضربتها موجة التهميش والارتجال. وأمامنا أزمات حادة لم تجد حلولا أوروبية منها قضية المهاجرين الذين بلغ عددهم المليون سنة 2015 ألقوا بعائلاتهم المنهكة وأطفالهم المشردين على سواحل جنوب أوروبا، وعوض أن يحدد الاتحاد الأوروبي سياسة موحدة للتعامل مع هذه الأمواج من البؤساء القادمين من الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا خيرت الحكومات التعامل العشوائي المنفرد مع الأزمة، فانشقت الدول الأعضاء بشكل واضح عن كل معاهدات الاتحاد، وانتهجت كل منها على حدة نهج القمع والردع، وإعادة التهجير وإقامة الجدران بأسلاكها المكهربة، واستعمال الرصاص ضد النازحين اليائسين. ولعل هذه المعضلة وسعت الشقاق بين بريطانيا وبقية الأعضاء ولم تحل أية مشكلة، بل تعقدت واستحال التنسيق بين الأعضاء. وتذكرون قبل ذلك ملف اليونان التي هددت هي الأخرى بمغادرة المركب الأوروبي حين أفلست مؤسساتها المصرفية وعجزت الحكومات اليونانية المتعاقبة عن تسديد رواتب الموظفين وجرايات المتقاعدين، وطلب الأعضاء من الألمان دفع 60% من مبالغ خيالية وصلت إلى 64 مليار يورو إلى خزينة الدولة اليونانية لإنقاذ اليونان من الإفلاس والحفاظ على اليونان داخل الاتحاد! وهنا جاء دور السيدة ميركل المستشارة الألمانية لتطالب بأدب وعلى استحياء أن تغادر هي الأخرى مركب الاتحاد الغارق؛ لأنها تحت ضغوط الرأي العام الألماني لم تعد قادرة على إقناع دافع الضرائب بتسديد عجز المواطنين اليونانيين الذين يتهمهم الألمان بالكسل وتدليس الحسابات الحكومية! ثم هل تعرفون للاتحاد الأوروبي سياسة موحدة أو دبلوماسية منسقة أثناء أزمات سوريا والعراق وليبيا واليمن؟ بالطبع لا! لأن كل دولة على حدة تصرفت بأنانية وربما بمزاج أمام الكارثة، فهبت طائرات مقاتلة من هنا وهناك من عواصم الاتحاد لتقصف هذا الفريق أو ذاك من الأطراف الكثيرة المتقاتلة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا! وظهرت للعالم وللرأي العام الأوروبي مظاهر عجز سياسي، وتهافت استراتيجي واضح، وظل مركب الاتحاد بلا ربان، كما قال أحد الوزراء الفرنسيين يوم الجمعة الماضي. ثم هل من يدلني على سياسة موحدة للاتحاد في التعامل مع طلب العضوية الذي تقدمت به تركيا منذ نصف قرن وكان لكل دولة أوروبية موقف مختلف لا يخضع لقانون دولي ولا حتى لميثاق الاتحاد، ورحم الله نجم الدين أربكان الذي قال قبل وفاته: أفضل أن تكون تركيا في طليعة الأمة الإسلامية على أن تكون في ذيل أوروبا! اليوم وقد حدث الشرخ الأخطر في مؤسسة الاتحاد بدأت الأحزاب اليمينية الرافضة لانضمام دولها لهذا الاتحاد تتنادى وتتشاور من أجل تنظيم نفس الاستفتاء في بلدانها لتحكيم الشعوب في قضية البقاء من عدمه في الاتحاد وقع ذلك في فرنسا والنمسا وتشيكيا والمجر. وهو ما ينذر باتساع مصيبة الانفجار وامتداد العدوى لبقية الأعضاء نتيجة الفشل الذريع في إدارة الأزمات كاتحاد منذ نشأته إلى اليوم. لكن الذي غاب عن العرب هو أن التسونامي الذي ضرب الساحل الشمالي من البحر الأبيض المتوسط لا بد أن ينعكس على اقتصاداتهم ومهاجريهم، ويضاعف من أزماتهم السياسية والاجتماعية، لسبب واضح وهو أن الاتحاد لم يعد قويا كما كان، وهو توأمهم العريق تاريخيا وحليفهم الظرفي أمنيا، وشريكهم الأكبر تجاريا وجارهم الأقرب استراتيجيا. ولم نسمع أن العرب اجتمعوا فيما بينهم لمواجهة هذه التحولات السياسية والحضارية العميقة؟ على الأقل للتشاور حول إعادة النظر في المعاهدات التي تربطهم بالاتحاد أو بدولة عضو من دوله، فمصالحنا العربية تقتضي مما بقي من جامعة الدول العربية القيام بأضعف الأيمان احتراما لذكاء النخب العربية المنتظرة لتحرك ناجع في زمن الفواجع المتوقعة.