[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]

”لم يغير المخطط الحضري اليوم الكثير في تأسيسه للمدن والأحياء الحديثة ما بعد أواسط القرن الثاني، إلا أنه بدأ يستجيب للتأثيرات الأوروبية، ثم الأميركية في فلسفة عمارة المدن. من ناحية أولى تشبث هذا المهندس الحديث بالجامع؛ ولكنه استجاب كذلك لظاهرة المقهى التي، كما قال نزار قباني، دائماً ما "تعلك" الجالسين بها وروادها على نحو متواصل.”
ـــــــــــــــــــ
عمد مخططو المدينة العربية في العصر الوسيط، بعد ظهور الإسلام واتساع الفتوحات خاصة، إلى تأسيس نواة المدينة من جزءين، هما: (1) المسجد الجامع، و(2) دار الإمارة. وقد رمز الأول إلى الحياة الروحية، بينما رمز الثاني إلى إدارة الحياة الدنيوية: دين ودولة. ولكن على الرغم من أن أول عاصمة لدولة الخلافة بعد المدينة المنورة، أي الكوفة، قد تأسست على نحو مختلف باعتبار تقسيمها أحياءً قبلية تسكنها القبائل القيسية والقبائل القحطانية على أسس أواصر الدم، إلا أنها بعد خمسة أعوام من خلافة الإمام علي (كرم الله وجهه) استجابت إلى النمط الأول أعلاه، إذ إنك إذا ما حظيت بزيارتها اليوم، ستجد دار الخليفة المتواضع على بعد بضعة أمتار من مسجد الكوفة الكبير. وعبر هذا الدرب الرملي الذي كان يسلكه الخليفة خمس مرات يوميًّا تمحورت حياة المدينة الإسلامية.
كانت هذه الظواهر الحضرية تعكس طبيعة المجتمعات العربية والإسلامية عامة: في العصر الوسيط (ما بعد ظهور الإسلام) كان دار الإمارة أو دار الخلافة مهماً للعواصم خاصة: الكوفة ودمشق وبغداد وسامراء وواسط، من بين سواها من حواضر الإسلام، لأنه مثّل رمز سلطة الدولة ومقرها. كما كان المسجد مهماً لأنه مثّل سطوة سلطة الدين على الإنسان حقبة ذاك. والحق أقول، هو أني لم أجد في تخطيط المدينة العربية الوسيطة فضاءً يمكن أن يخدم مقهى!
لم يغير المخطط الحضري اليوم الكثير في تأسيسه للمدن والأحياء الحديثة ما بعد أواسط القرن الثاني، إلا أنه بدأ يستجيب للتأثيرات الأوروبية، ثم الأميركية في فلسفة عمارة المدن. من ناحية أولى تشبث هذا المهندس الحديث بالجامع؛ ولكنه استجاب كذلك لظاهرة المقهى التي، كما قال نزار قباني، دائماً ما "تعلك" الجالسين بها وروادها على نحو متواصل. لنلاحظ أن المقهى ظاهرة مدينية عربية إسلامية بامتياز: فلا مدينة جديدة تتفتح أو تزهر بدون وجود المقهى إلى جانب السوق والجامع، أجزاءً اساس من كينونتها وكينونة مجتمعاتها.
وطالما تأمل المراقب ما الذي تعنيه هذه الأهمية التي يوليها المخطط المديني العربي والمسلم للمقهى؟ برأيي أن المقهى تضطلع بدور اجتماعي لا يستهان به ليس لأنها ظاهرة ضرورية أو مستحبة، ولكن لأنها تمتص شيئاً من طاقات السكان الفائضة من خلال ألعاب التسلية التي ينتشي بها البعض "بالنصر" كل نصف ساعة بعد فوزه بجولة "دومينو" على مجالسيه، أو فوزه بجولة شطرنج عليهم. ثمة انتشاء بالنصر المؤقت تمنحه هذه الألعاب لهؤلاء الذين يفضلونها على مجالسة أصحاب المسبحات الذين يلاعبون حباتها طوال ساعات وكأنهم في هذه الملاعبة الدورية لحبات نفس المسبحة على نحو متواصل إنما يعكسون لا جدوى وجودهم. هم شبان وكهول، تدور حياتهم صعوداً ونزولاً مع حبات المسبحة التي لا تسمح لهم بنشاط آخر سوى ارتشاف اقداح الشاي والإسهام في النفاق الاجتماعي عبر "القيل والقال"، و "القيق والقاق".
وإذا كان المهندس القادم من الدراسة في مدارس أوروبا أو أميركا الشمالية قد حاول جاداً الاستعاضة بمركز الشباب بديلاً للمقهى، فإن ميل الإنسان المحلي عبر الشرق الأوسط إلى أجواء وذهنية المقهى بقي بدرجة من القوة والقدرة على التواصل أن مراكز الشباب الحديثة استحالت إلى مقاهي، بدلاً من أن تكون ورشات تدريب أو معامل أعمال يدوية أو ساحات رياضة وأحواض سباحة.
وعود إلى بدء، للمرء أن يلاحظ أن سكان الأحياء الحديثة أو المدن الجديدة في عالمنا الشرق أوسطي ينقسمون إلى صنفين: أهل المساجد وجماعة المقاهي: فبينما يخص المتدينون المواظبون على الصلوات الخمس هواة المقاهي بنظرة لا تخلو من الازدراء والدونية، يعتقد الأخيرون أن أهل المساجد يبالغون في انغماسهم بالفروض والتدين، درجة أنهم ينفصلون عن المجتمع ويفقدون التواصل مع الحياة العملية اليومية بسبب انهماكهم بابريق الماء للوضوء وبنظافة السجادة للصلاة.
هكذا ينحو كلٌ منحاه في مدينتنا العربية الإسلامية التي تعصى على الاستجابة لمعطيات تخطيط المدينة الحديثة، بدليل أن المقاهي راحت تطور نفسها وتحسن دورها الاجتماعي بعد استبدال منضدة الدومينو بمنضدة الكومبيوتر لتستحيل إلى "مقاهي الكترونية" لا مجال للقيل والقال في دواخلها إلا عبر الأثير!