[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]

تحت عناوين "حماية الحريات وحقوق الإنسان ونشر الديمقراطية" قادت الولايات المتحدة حروبًا عسكرية شعواء ضد دول كالعراق وليبيا، ولا تزال تقود حروبًا بالوكالة مع تقديم الدعم المالي والتسليحي لتنظيمات إرهابية تسميها "معارضة معتدلة" للإطاحة بحكومات لا تتفق وسياساتها المعادية كما هو حال سوريا، في حين أن الداخل الأميركي وما يعتريه من تناقضات وثقافات قائمة على العنصرية والعنف والقتل وتنافس مادي، وديمقراطية باتت حكرًا على حزبين يتبادلان السلطة، والكلمة الفصل في اختيار الرئيس بيد اللوبيات (اللوبي الصهيوني ولوبي السلاح ولوبي شركات النفط) وغير ذلك، لا يؤهل الولايات المتحدة أن تتحدث عن أوضاع أو تتدخل في شؤون الآخرين لا أن تقود حروبًا عدوانية.
لم تكن جريمتا قتل رجلين أسودين برصاص الشرطة في لويزيانا ومينيسوتا حادثة استثنائية أو حالة فردية كما يحاول السياسيون الأميركيون ترويجه، وإنما تكشف عن أبعاد اجتماعية خطيرة يعاني منها المجتمع الأميركي، وتعكس حالة التفسخ وعدم الترابط، حيث لا تزال فيه قضية العنصرية متفشية بل ومتجذرة وتضرب عميقًا في المجتمع الأميركي. كما تميط اللثام عن جانب مظلم في المنظومة الاجتماعية والسياسية والقانونية والأمنية الأميركية، يتم التحايل عليه من قبل قوى سياسية وتشريعية وأمنية بأن عمليات القتل طبيعتها فردية، ودافعها قضايا شخصية.
ومع أن حال التفسخ وعدم الترابط وغياب التكاتف والتعاون والتراحم تعد نتاجًا للنظام الرأسمالي المادي المتوحش والقائم على المصلحة الذاتية، إلا أن تفشي العنصرية إلى هذه الدرجة المقيتة في الولايات المتحدة وفي مجتمع يوصف بأنه مجتمع ديمقراطي، يضع علامات استفهام حول حقيقة الديمقراطية الأميركية ودورها الواجب في ترسيخ القيم والمبادئ والمُثل والأخلاق واحترام الحقوق الإنسانية والحياة البشرية، وعدم التفرقة بين جنس أو لون أو عرق.
ولعل ما قاله الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون يوم الجمعة الماضي بأن الولايات المتحدة بحاجة إلى معالجة التمييز على نحو شامل بما في ذلك الفوارق العنصرية في إنفاذ القانون، يلقي الضوء على جانب كبير من حقيقة الولايات المتحدة من الداخل وديمقراطيتها التي تصم بها آذان العالم، خاصة وأن هذا الموقف يصدر من أمين عام للأمم المتحدة وسياسي عاش في الولايات المتحدة، واطلع عن كثب على حقيقة المجتمع الأميركي، حيث أضاف (بان كي مون) قائلًا: "ليس هناك مبرر لمثل هذا العنف... من فعلوا ذلك تسببوا في زيادة المعاناة التي يشعر بها كثيرون في الولايات المتحدة بعد مقتل رجلين أميركيين من أصل إفريقي على مدى يومين". داعيًا إلى تحقيق شامل ونزيه في هاتين الجريمتين.
وفي تفاصيل جريمتي القتل اللتين أثارتا غضبًا عارمًا لدى السود في الولايات المتحدة، أقدم شرطي أبيض في لويزيانا على إطلاق خمس رصاصات على مواطن أميركي أسود يدعى ألتون سترلينج وذلك في الخامس من الشهر الجاري، وقد أظهر شريط مصور أنه كان ملقى على الأرض حين استهدفه الشرطي بوابل من الرصاص. أما في مينيسوتا فقد قام شرطي أبيض بإيقاف سيارة يقودها مواطن أميركي أسود يدعى فيلاندو كاستيل وبرفقته امرأة وطفل، ودون سبب واضح أقدم الشرطي على إطلاق النار على سائق السيارة، في حين استطاعت المرأة أن تستخدم تسجيل الجريمة عبر استخدام خاصية البث الحي عبر فيسبوك. هاتان الجريمتان أدتا إلى ردود أفعال غاضبة جاء أحدها من قناص أسود يدعى ميكاه جونسون استهدف في عملية منسقة خمسة رجال شرطة بيضًا فأرداهما قتلى.
وفي لهجة يائسة حاول الرئيس الأميركي باراك أوباما أمس الأول التقليل من الجرائم الثلاث وما سبقها من جرائم في أورلاندو وسان دييجو وغيرها، وأن الجناة لا يمثلون لا السود من أصل إفريقي ولا البيض، وأن أميركا ليست منقسمة، حاثًّا الأميركيين على ألا ينظروا إلى بلادهم وكأنها تتمزق إلى مجموعات متعارضة. إلا أن أوباما بتقليله هذا يبدو كمن يحاول تغطية الشمس بغربال عن رؤية حقيقة المجتمع الأميركي وثقافته القائمة على المادية المتوحشة وعلى العنف والعنصرية كإفراز طبيعي للنظام الرأسمالي المتوحش الذي لا يقيم وزنًا لحياة الإنسان وحقوقه، وفيه تجاهل واضح للزيادة في عمليات القتل المقصود لذاته لمواطنين سود من قبل رجال شرطة بيض، وتجاهل أيضًا لما يجب أن تقوم به السلطات المعنية بمنع هذه الجرائم وتكرارها. ولعل استمرار المظاهرات ضد حوادث القتل على أيدي رجال الشرطة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة لا يعكس مستوى الاحتقان والغضب فحسب، وإنما يؤكد عدم الثقة في السلطات الاتحادية ومنظومة التشريعات والقوانين وإنفاذها، والرغبة الجامحة في الانتقام.
إن تفشي ظاهرة العنصرية وتجذرها داخل المجتمع الأميركي ووسط البيض يعني أن هذا المجتمع لم يتعافَ بعد من أمراضه السابقة التي يعتقد أنها قد انتهت بعد نجاح ثورات تحرير العبيد في ستينيات القرن الماضي التي قادها سود في مقدمتهم مارتن لوثر كينج، وبالتالي باتت الحقوق المدنية للمواطنين السود التي انتزعوها معرضة للغياب والانتهاء، ما يعني أن الداخل الأميركي مقدم على فصول متكررة من الحوادث العنصرية التي تهدد بانفلات التوتر من عقاله، وتفجر الأوضاع واشتعال ميادين المواجهات.