[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
”.. قدمت المقهى خدمات جلى للدول الشمولية، خاصة بعد أن تم تعميم استعمال المسجلات الصغيرة التي تدس في الجيب على سبيل تسجيل ما يقول المنافسون أو الناقدون الذين تنشطهم أقداح الشاي والقهوة بفائض فظيع من الطاقات "النقدية"! وهي المطلوبة، على نحو دقيق. وهكذا تدور أجهزة التسجيل على نحو متواصل لرصد كل شيء حتى "العطاس" و"التثاؤب"،”
ـــــــــــــــــــــــــ
في الجزء الأول من مقالتي، "المقهى"، المنشورة في الوطن الغراء 8 إبريل، حاولت أن أربط ظهور المقهى في المدينة العربية في الأزمنة المتأخرة مع تراجع دور العرب الحضاري والثقافي، الذي كان سابقاً دوراً ذكوريًّا استفزازيًّا في العصر الوسيط، لذا استحالت المقهى إلى رمز لتضييع الوقت وإهدار الطاقات، زيادة على ظاهرة استعمالها للأهداف السياسية في الدول غير الديمقراطية، ناهيك عن مخاطر انحدارها إلى نواد للقمار والمراهنات التي يمكن تحقيقها بأبسط ألعاب التسلية التي تبدو بريئة على السطح.
وإذا كانت المقهى، بهذا السياق من علامات عصور التراجع والنكوص، فإنها تبدو كذلك من علامات التردي السياسي، خاصة بعدما اعتمدتها الأنشطة الحزبية والسياسية للدعاية وللمناقشات والمناظرات التي غالباً ما تنتهي إلى تبادل اللكمات وتطيير الكراسي في فضاء المقهى، ناهيك عما ينتج عن هذه الممارسات "السلمية السياسية" من إسعافات وعيادات أطباء ومستشفيات.
لقد خصت العديد من الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط المقهى فيما مضى باهتمام شديد باعتبارها الآنية التي تنشط بدواخلها المناكفات والمناقشات والمجادلات السياسية، الأمر الذي قاد المسؤولين آنذاك إلى عد المقهى في هذا الحي أو ذاك مركزاً لتواجد مؤيدي هذه الأنظمة الذين كانوا يمثلون قناة ممتازة لنقل الأخبار والتقارير من الشارع إلى الأجهزة الأمنية التي ربما كان يفضل أعضاؤها قضاء أوقاتهم في المطاعم والحانات الراقية بدلاً عن المقاهي الشعبية!
إذاً، تم توظيف المقاهي مقرات حزبية وأمنية معلنة أو غير معلنة: وفي الحال الثانية تكون المقهى مجالاً للإنصات والتجسس ورصد الفاعلين السياسيين الخصوم والمنافسين. لذا تم تجهيز هذه المقاهي، إضافة على أحجار الدومينو وبيادق الشطرنج والكثير من الشاي والسكر، بالتلفازات مجاناً، على سبيل استقطاب أكبر الأعداد من رواد المقاهي الذين يمكن هذه المرة أن "يتحازبوا" في أحاديثهم ومناقشاتهم حد الإعلانات الخطيرة التي تمس بـ"أمن الدولة"، كما كانوا يسمون الحكومة. وهكذا قدمت المقهى خدمات جلى للدول الشمولية، خاصة بعد أن تم تعميم استعمال المسجلات الصغيرة التي تدس في الجيب على سبيل تسجيل ما يقول المنافسون أو الناقدون الذين تنشطهم أقداح الشاي والقهوة بفائض فظيع من الطاقات "النقدية"! وهي المطلوبة، على نحو دقيق. وهكذا تدور أجهزة التسجيل على نحو متواصل لرصد كل شيء حتى "العطاس" و"التثاؤب"، علماً بأن ما تختزنه هذه الأجهزة من معطيات يمكن أن تظهر نتائجه في المعتقلات والسجون بعد حين. وكما أسلفنا، فإن هذه الظاهرة لم تكن محصورة ببلد واحد فقط، وإنما كانت هي ظاهرة "شرق أوسطية" بامتياز.
لابد أن الإنسان العربي في العصر الوسيط قد استعان بالمجالس والمضائف بدلاً عن المقاهي في مدينته حقبة ذاك. هذا النوع من المجالس والمضائف غالباً ما كان يستحيل إلى منتديات للشعر والثقافة والأدب، بل ولسرد التاريخ كذلك، الأمر الذي يفسر حقيقة مفادها أن أوائل المؤرخين العرب والمسلمين كانوا يسمون بـ "الإخباريين" بمعنى أنهم كانوا يتداولون قصص "الأوليين" أو "القدماء" شفويًّا وعلى نحو لا يخلو من الدرس الديني. لذا ظهرت التواريخ المسجلة عند المسلمين على نحو "حوليات"، خالية من النظرة النقدية أو السرد الإيحائي الفكري الذي يلقي الأضواء على الجوانب المظلمة من الماضي. بل إن الأخطر يتمثل في استحالة الدين تأريخاً والتاريخ ديناً، ناهيك عما شاب هذه الممارسات من مبالغات وأساطير هي من وحي المصالح السياسية والانحيازات على أنواعها.