[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedabdel.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد عبد الصادق[/author]
مسؤولية تجديد الخطاب الديني تقع أولًا على عاتق رجال الدين، وليس هناك ما يمنع أن يكون للمثقفين دورهم، ولكن يجب أن تكون المسافات واضحة ومحددة بحيث يظل الدين له احترامه وقداسته، ولا داعي أبدا للاختلاف والانقسام وإشعال الحروب بين الفريقين؛ لأن العدو الحقيقي للدين والثقافة هو التخلف والجهل والتطرف والإرهاب الذي أساء للإسلام والمسلمين دون أن يستثني فئة أو جماعة...

منذ جاء الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي للحكم وهو لا يكل ولا يمل من الدعوة لتطوير الخطاب الديني, وتلقفت المؤسسة الدينية الرسمية في مصر متمثلة في الأزهر ووزارة الأوقاف دعوة الرئيس وقامت بمحاولات حثيثة لتنقية المناهج الدينية وخطب الجمعة من التفسيرات الفقهية الملتبسة التي يمكن استخدامها للترويج للأفكار المتطرفة أو من الآراء التي تدعو للعنف والإرهاب، وكان آخر هذه الإجراءات قرار وزير الأوقاف المصري بتوحيد خطبة الجمعة, وإلزام الدعاة بالخطابة من خلال نص مكتوب معتمد من الوزارة.
المجتمع المصري ـ المنقسم أصلًا ـ انقسم حول فكرة إصلاح وتطوير الخطاب الديني التي أصبحت هاجسًا يؤرق معظم الدول العربية والإسلامية بعد تصاعد حوادث العنف والإرهاب التي تلصق بالإسلام والمسلمين لدرجة شوهت صورة الإسلام العقيدة والدين، وجعلته في مواجهة مع بقية شعوب الأرض, وأصبح لزاما على علماء المسلمين فتح آفاق الاجتهاد والحوار وقبول الاختلاف مع الآخر في العقيدة والرأي وتوضيح الصورة الحقيقية للإسلام وعلاقته بالعقائد الأخرى والعودة لجوهر الإسلام الذي ساد عبر العصور الإسلامية الأولى؛ باعتباره دين التسامح والرحمة والتعايش السلمي مع باقي الشعوب والأديان.
الخلاف الدائر في مصر الآن يدور أولًا حول الجهة المناط بها مسؤولية تطوير الخطاب الديني؛ هل هم علماء الدين أم مؤسسة الأزهر أم أن الأمر يتطلب حوارا فكريا شاملا وواسعا يشارك فيه كبار المفكرين والمثقفين وأصحاب الرؤى الثقافية؟ حيث يرى علماء الدين أنهم الأحق بالتصدي لعملية التطوير, بينما يرى المثقفون والمفكرون أن القضية أشمل وأكبر من نصوص وتفسيرات وآراء فقهية, وإنما قضية فكر وثقافة وهوية مجتمع, واشتد الخلاف بين الفريقين حتى أصبح هناك تيار جديد يضع الخطاب الثقافي في مواجهة الخطاب الديني.
والحقيقة التي لا مهرب منها, أن هناك اختلافا بين الخطابين الديني والثقافي فلا يستقيم أن تكون هناك وصاية للثقافي على الديني؛ لأن الخطاب الديني ينطلق من ثوابت دينية إلهية مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة, ومن كتب الفقه التي اتفق عليها علماء المسلمين عبر مختلف العصور, كما أن علوم الدين مثل سائر العلوم فيها التخصصات والجوانب المختلفة مثل علوم التفسير والفقه والإفتاء, بينما الخطاب الثقافي يعتمد على الجهد الإبداعي البشري وهو قابل للتطور والتغير والحذف والإضافة, ويسعى دائما وراء كل جديد وهدم "التابوهات" على مر العصور.
الأزمة التي تعرقل تطوير الخطاب الديني سببها اقتحام بعض المثقفين للساحة الدينية والتجرؤ على الثوابت الدينية, وتابعنا في الفترة الأخيرة أروقة المحاكم تنظر العديد من القضايا المتعلقة بازدراء الأديان, وكنا في غنى عن هذا الصدام لو أن المثقفين التزموا بحدود اختصاصهم وتجنبوا الخوض في المسائل الدينية التي يجهلونها لما حدثت كل هذه الصراعات.
هذا الصراع بين الاديان والإبداع ظاهرة عالمية قديمة منذ ظهور روايات الكوميدية الإلهية لدانتي والفردوس المفقود لملتون في الأدب الغربي ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري وأولاد حارتنا لنجيب محفوظ في الأدب العربي وأشعار ابن عربي والحلاج وابن الفارض وبسببها نشبت معارك تاريخية دامية بين أهل الفكر والإبداع ورجال الدين، ويبدو أن هذا الصراع لن ينتهي وسيظل هدف كل فريق أن يتخلص من الآخر، وهذا وهم كبير فلا الإنسانية ستتخلى عن عقائدها ولا البشر سيتوقفون عن ممارسة الفكر والإبداع.
الدين شيء مقدس والثقافة شيء آخر، ويمكن أن يلتقيا لو التزم كل فريق بحدود اختصاصه وتوقف عن ممارسة الوصاية على الجانب الآخر؛ لأن في ذلك اعتداء صارخا على حرية العقل وحرية العقيدة، وخلطا للأوراق لا مبرر له على الإطلاق, هذا الخلط انتهى بأوروبا لعزل الدين عن شؤون الحياة وبقيت دور العبادة لمن أراد أن يمارس طقوسه الدينية، ويخطئ في مصر أو الدول العربية من يتصور إمكانية إقصاء الدين عن دوره في حياة الناس.
كانت السياسة على مر التاريخ في مصر سببا رئيسيا في إذكاء الصراع بين رجال الدين والمثقفين؛ فلطالما انصاع رجال الدين لتدخلات وإملاءات رجال الحكم والسياسة, كما أن الثقافة عبثت فيها الأيديولوجيات وتقاذفتها التيارات السياسية تبعًا للمصالح والأهواء.
لا بد من التلاقي بين العقيدة والفكر بين النص الإلهي والإبداع البشري، وأن يدرك المثقف حدوده ومسؤولياته تجاه احترام عقائد وثوابت المجتمع, وفي هذا الإطار اجتمع د. أحمد الطيب شيخ الأزهر أكثر من مرة مع نخبة من المثقفين المصريين، وأصدر الأزهر وثيقة أكد فيها متانة العلاقة بين الدين والثقافة، وأكد البيان تقدير الأزهر الشديد لدور الثقافة والمثقفين في بناء المجتمع.
مسؤولية تجديد الخطاب الديني تقع أولًا على عاتق رجال الدين، وليس هناك ما يمنع أن يكون للمثقفين دورهم، ولكن يجب أن تكون المسافات واضحة ومحددة بحيث يظل الدين له احترامه وقداسته، ولا داعي أبدا للاختلاف والانقسام وإشعال الحروب بين الفريقين؛ لأن العدو الحقيقي للدين والثقافة هو التخلف والجهل والتطرف والإرهاب الذي أساء للإسلام والمسلمين دون أن يستثني فئة أو جماعة، فكل المسلمين ينتظرهم سوء المعاملة والنظرة الدونية والتفتيش على أساس العقيدة والهوية في دول ومطارات العالم شرقه وغربه.
الأمر جد خطير ولا ندري التدابير ولا الإجراءات التي تعدها دول العالم لمواجهة كل ما هو إسلامي والخطط والسياسات التي تتعلق بعلاقتهم بالعرب والمسلمين نتيجة استمرار حوادث العنف والإرهاب التي يقترفها مجموعة من الجهلة والمتخلفين ينتسبون ـ شئنا أو أبينا ـ للإسلام وواجبنا أن نسارع لإيجاد وسيلة لاستئصال هذا السرطان الذي ينخر في بنيان الأمة ويهدد حاضرها ويحاصر مستقبل أبنائنا.