[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fayzrasheed.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. فايز رشيد[/author]
رغم ذلك, كنت كما كل مناضلينا بمستوى هذه القضية, والوطن المزنّر, بالأمل المتجدد في كل أبنائه وحتمية لقائه بهم. عائدين إليه بأكاليل النصر. كنا جديرين بهذا الشعب الفلسطيني العربي الكنعاني الأصيل, المتجاوز في التضحيات حدود الشمس. نعم, يُغيّب الموت أجساد المناضلين (فما أكاد أكتب رثاء في صديق, حتى يترجل آخر عن صهوة جواده) في متوالية لا تنتهي من الميلاد والموت!

عندما يترجل الفارس «أبو فارس» تئن أزهار البرتقال في فلسطين وجوافة قلقيلية بشكل خاص.. وجعا وحنينا,, وذكرى لأبنائها. تغوص الشوارع في عتمتها... وينبثق طائر الفينيق الجديد.. يعلن الأزل الفلسطيني الخالد والمتجدد حتى لمن يبدو لهم العكس. يظهر من تحت الرماد.. ويقذف سهامه نحو العدو.....مرددا نهايته الحتمية إن آجلا أو عاجلا. سحابات تغطي .. وجه الشمس, وهي تلبس ظلالا على غير عادتها. وكأنها أبت إلا المشاركة في هذا الحزن الفلسطيني.
تيسير قبعة, أيها الفارس المخبأ في شظية فلسطينية لا تنتهي, إلا بتحرير الوطن كاملا من البحر إلى النهر. أهكذا يكون الموت سريعًا؟ لا أعترض على القدر, فلكل أجل كتاب. عشية موتك, استلمت منك مقالتين على بريدي الإلكتروني كتبهما الباحث العربي العراقي عبدالحسين شعبان ونشرهما في إحدى الصحف. لا أعرف, فقد شعرت بانقباض لم أجد له تفسيرا, ولهذا أجّلت قراءتهما. يشاء القدر أن أقرأهما وكنتَ قد رحلت. الموت يأتي في لحظة. فوجئت بخبر رحيلك صباح الخميس وكنت في طريقي إلى عيادتي. الموت حق, لكنه في الحالة الفلسطينية يتخذ منحى آخر, أشبهه «ككتابة الألم بمداد الحزن». كل منا محروم حتى من دفن جثمانه (وكما يوصي مطلق إنسان) في وطنه, وبلده تحديدا. هذا الأمر سهلٌ لكل البشر, إلا في الحالة الفلسطينية, في فرحها وموتها وحزنها, وحقها المشروع في معانقة تراب الوطن والبلد حتى في الموت! ولكن: «هذا هو العرس الفلسطيني.. هذا هو الحزن الفلسطيني.. حيث لا يصل الحبيب.. إلى الحبيب.. إلا شهيدا أو شريدا». لذا فإن الفلسطيني طيلة عمره يتذكر الدرس الأول, الذي تعلمه في حياته «أن يحذر الفرح لأن خيانته قاسية».
رغم ذلك, كنت كما كل مناضلينا بمستوى هذه القضية, والوطن المزنّر, بالأمل المتجدد في كل أبنائه وحتمية لقائه بهم. عائدين إليه بأكاليل النصر. كنا جديرين بهذا الشعب الفلسطيني العربي الكنعاني الأصيل, المتجاوز في التضحيات حدود الشمس. نعم, يُغيّب الموت أجساد المناضلين (فما أكاد أكتب رثاء في صديق, حتى يترجل آخر عن صهوة جواده) في متوالية لا تنتهي من الميلاد والموت! ولكل من لا يعرف: لموت الفلسطيني حياة أخرى! أستشهد (كما أفعل دائما) بمبدعنا الكبير محمود درويش(وأول مرة رأيته فيها, كانت معك في موسكو في فندق روسيا الذي نزلتما فيه. وإن لم تخني الذاكرة في بداية عام 1973) حينما قال في «جداريته» الرائعة: «هزمتك يا موت الفنونُ جميعها, هزمتك يا موت الأغاني... في بلاد الرافدين. مسلة المصري, مقبرة الفراعنة, النقوش على حجارة معبد! هزمتك..الخ». لذا, فإن المناضل الفلسطيني, ككل الثوريين, يغيب جسدا ويبقى أثرا, يحمل شمعات كثيرة تضيء الأنفاق المظلمة (وما أكثرها) في طريق تحرير الوطن.. السائر حتما في شراييننا ونسغ حروفنا.
أبا فارس, أيها الحبيب.. أذكر أول مرة رأيتك فيها (بوعي) كانت في عام 1964 في مدينتنا قلقيلية, حينما انعقد أول مجلس وطني فلسطيني في عاصمتنا الخالدة القدس. جئت يومها مع وفد من الضيوف الأجانب (أذكر من بينهم الكاتبة البريطانية ايتيل مينون, المعروفة بتأييد قضيتنا, مؤلفة الكتاب الشهير «الطريق إلى بئر السبع» وصاحبة الكلمة المشهورة «العرب أسوأ المحامين عن أعدل القضايا») الذين حضروا ندوة فلسطين العالمية في القاهرة, وقد نظمتها أنت ورفاقك (وكنتَ يومها رئسا للاتحاد العام لطلبة فلسطين). سلّمتُ عليكَ يومها, وذهبتم لزيارة حدود المدينة مع المنطقة المحتلة عام 48) كنتَ أيامها قياديا في حركة القوميين العرب. وحين تشكيل الجبهة الشعبية بعد عام 1967, التزمت وصديقاك أسعد عبدالرحمن وأحمد خليفة بمغادرة القاهرة والنزول إلى الأرض المحتلة لإعادة تنظيم خلايا الحركة في فلسطين المحتلة في إطار الجبهة الشعبية. اعتقلك الصهاينة وحكموا عليك بالسجن ثلاثة أعوام.
قبل اعتقالي ببضعة أشهر, زرتك في السجن, وفهمتُ بالشيفرة ما هو المطلوب مني. واعتُقلت أنا بعدها في سجن نابلس, والتقينا من جديد. طلبتَ أنت من إدارة السجن تخصيص غرفة للطلاب, حتى يمارسوا دراستهم فيها في ظروف السجن. الطلبة كانوا من مختلف التنظيمات الفلسطينية بلا استثناء. كنتُ أنا أثناءها في سنتي الدراسية الأخيرة, وبناء على اتفاق بينك وبين رئيس لجنة الامتحانات في الضفة (التابعة لوزارة التربية والتعليم الأردنية حينها عام 1969) تقرر أن يقدم طلبة التوجيهي الامتحان الرسمي في السجن. أذكر حزنك عندما أبلغتني بأنني الوحيد الذي مُنع من تقديم الامتحان! أجبتكَ يومها «ولا يهمك». بعدها نقلوني إلى سجن طولكرم, وشقيقي الأكبر إلى سجن بيت ليد إمعانا في تعذيبهم لعائلتنا في زيارة كل منا منفردا.
التقيتك بعدها في عمان بعد إبعادك وإبعادي. غادرتَ إلى بيروت وأنا إلى موسكو, والتقينا مرات كثيرة فيها وفي لبنان وفي الأردن. باختصار ما أقوله على هذا الصعيد, إنك مثّلت لي كما لكثيرين من الشباب أخا كبيرا وقائدا فلسطينيا بامتياز. كنت معلّما ومربيا للمئات من أبناء جيلي بحكم مسؤوليتك في المكتب السياسي عن الفرع الخارجي. ولعلني أقول عن تجربة غرفة الطلاب ما يلي: كنا نجمع ما يصلنا من الأهل في الزيارات من سجائر بعدد محدود وحلويات وغيرها (من التي كان يسمح السجانون بإدخالها), ليكون أحدهم م مسؤولا عن توزيعها بالتساوي بين الجميع (فبعضهم جاء من الخارج, ولا أهل لديه في فلسطين, نحن كنا أهله باختصار, كما يتصرف كل أسرانا). تحوّلت الغرفة بفضل جهودك إلى مدرسة نضالية سياسية, ثقافية واجتماعية, باختصار إنسانية. هذه التجربة لن أنساها ما حييت.
لن أتحدث عن مناصبك المختلفة, إن في الحركة أو الجبهة, مرورا بمنظمة التحرير سواء, في عضوية لجنتها التنفيذية أو مركز النائب الأول لرئيس المجلس الوطني الفلسطيني, وصولا إلى مراكز قيادية في الاتحادات البرلمانية العربية والدولية (وآخرها الأورو متوسطي). باختصار كنتَ سفيرا متجولا لفلسطين على مدار الساعة, شابا وكهلا ومتقدما في العمر, حتى آخر لحظة في حياتك.
حاولوا الإساءة إليك بكل الوسائل والسبل: قرارات متتابعة بمنعك من السفر لحضور مؤتمرات دولية, إرسال كتب لبعض الدول بأنك لا تمثل سياسات المنظمة. تخفيض راتبك... ووسائل غيرها! هذا فقط لأنك تغرد خارج سربهم السياسي, وتؤمن باستراتيجية وسياسات جبهتنا الشعبية. أذكر في إحدى المرات, عندما زرتك في مكتبك منذ بضعة أشهر, ورأيت ألم هذا الموضوع تفترش تعابير وجهك, وكي أخفف عنك, خاطبتك: «حتى المسيح بيع بثلاثين من الفضة», كما أوطان وحقوق وطنية تباع في زمننا الرديء, فلا تستغرب. كلمة أخيرة: لم أكن أتوقع أنك ستنضم إلى قائمة الراحلين الذين عرفتهم, وقد بدأت إعداد كتاب لي عنهم, متوَقعا صدوره في نهاية العام الحالي.
صديقي وأخي: ولدتَ وعشتَ قائدا ومناضلا فلسطينيا بامتياز, وهكذا تموت. نم قرير العين.. تدرك.. إننا سنواصل المشوار. الرحمة لروحك, والمجد لذكراك. من حق فلسطين وبخاصة مدينتنا قلقيلية المتعبة والموحَعة بالاحتلال أن تفخر بابنها يمضي على طريق الوفاء لها.