كانت حافلة الركاب تتهاوى باتجاه الساحل قادمة من دمشق بعد حضور ركابها أحد المؤتمرات الفلسطينية وتلك التي كانت تجسد حراكا فلسطينيا ثوريا. لم يكن أحد يعلم أن هذه الحافلة ستصطدم بزحام شديد عند مداخل العاصمة بيروت، فيقرر سائقها تغيير اتجاهها، وكان الدخول في عمق الأحياء الشعبية، وتحديدا في منطقة عين الرمانة وتحديدا أكثر قرب مقر أحد الأحزاب التي لا تطيق الفلسطينيين وهو " حزب الكتائب".
دخلت الحافلة في تلك الشوارع ومن فيها يهتفون لفلسطين ويغنون لها، وما أن قاربوا نهايتها وتحديدا عن نقطة تدعى منطقة " المراية " او المرآة حتى انصب الرصاص على كل من في الحافلة فأردى معظمهم قتيلا ( 27 قتيلا) والباقون صاروا جرحى.
لم يكن ذلك اليوم سوى 13 ابريل الشهير ( 1975 ) الذي شاء أن يصبح ذكرى أعتى حرب داخلية في لبنان استمرت خمسة عشر عاما .. بل لم يكن ذلك اليوم الذي سقط فيه فلسطينيون أبرياء لاذنب لهم سوى انهم كانوا يهتفون لبلدهم المغتصب، سوى مرحلة الانفجار الذي كان فيه الاحتقان الداخلي اللبناني على أشده ..
صحيح أنه قيض لهذا التاريخ إعلان بداية الحرب اللعينة الرهيبة، لكنها كانت مخبأة داخل المجتمع اللبناني وبين قواه السياسية، ولم يكن بعيدا ان تكون اسرائيل قد جهزت المسرح لحرب تقول أن سببها الوجود الفلسطيني في لبنان.
اندلعت الشرارة في منطقة عين الرمانة المسيحية التي كان في مواجهتها منطقة الشياح الاسلامية، ومنها خرج إطلاق النار على أهالي عين الرمانة، ليكون بعدها الحريق على مستوى لبنان كله، ولينتهي بمأساة كبرى بين مقتل وجرح عشرات الآلاف إن لم يكن مئات الآلاف واختفاء المئات من الأهالي وخراب كبير، بل كان تدمير لبنان بأكمله بمؤسساته وبقواه الحية وبمجتمعه المدني.
مواصفات هذه الحرب التي باتت معروفة، لم تكن قد بدأت في الثالث عشر من ابريل، إذ ماذا نفعل بما جرى قبلها في لبنان الذي كان انعكاسا للمنطقة، وخصوصا بعد هزيمة العرب في الخامس من يونيو 1967 حين سقطت مصر وسوريا والاردن، وظل لبنان بعيدا محيدا، فظن اللبنانيون أن حياد بلدهم سيجعلهم أسياد المنطقة، فإذا بهم يقعون أسرى تطور داهم لم يحسبوا له حسابا، وهو انطلاقة المقاومة الفلسطينية، وتحديدا من البلدان التي لها حدود مع اسرائيل ( لبنان وسوريا والأردن).
اذكر اني زرت الاردن عام 1969 وزرت عمان سريعا فرأيتها مثل هانوي في ذلك الوقت، عدد كبيرمن المنظمات الفدائية تمسك بالمدينة وبغيرها من المدن والريف، تتحرك كما يحلو لها بعدما صارت الآمر الناهي في مجتمع اردني كانت تتراكم فيه تلك المشاهد لتزيد من حجم الغضب الداخلي سواء من السلطة او من الشعب .. واذكر اني قرأت في صحيفة اردنية في ذلك الوقت مخاوف المقاتلين الفلسطينيين الذين كانوا يعتبرون انفسهم طارئين على الواقع الاردني ..
لكن لبنان لم يكن احسن حالا، فبينما كان الجنوبيون يستقبلون الفدائيين الفلسطينيين بالترحاب، كانت الدولة اللبنانية على خصام معهم، خصوصا من تجاوزاتهم في تلك الفترات، وبشكل أخص بعد تحول المخيمات الى بؤر للمنظمات يفعلون فيها مايشتهون دون حسيب او رقيب بعدما كانت الدولة اللبنانية تحكمهم بقبضة من حديد. وبعد معارك قاسية بين الجيش اللبناني وبين الفدائيين في أكثر من منطقة وخصوصا في الجنوب كان لابد من تسوية بين الطرفين، وقد تم ذلك في القاهرة عام 1969 وبرعاية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ،، فإذا بالاتفاق قد جاء لمصلحة الفلسطينيين سمح لهم بالإشراف على مخيماتهم وبحرية التنقل في لبنان وغيره مما اعتبره البعض مثل حزب الكتائب ومن لف لفهم تعديا على لبنان، وربما منذ لحظات التوقيع على الاتفاق كان التدريب العسكري في المناطق المناهضة للفلسطينيين وخصوصا حزب الكتائب على قدم وساق .. فإذا أضفنا الحرب التي دارت بين النظام الأردني والقوى الفلسطينية العسكرية وكيف جاءت النتائج لصالح النظام الذي أخرجهم من المدن الرئيسية ومن بقية المناطق، لعلمنا أن مقرهم النهائي كان معروفا، فلا سبيل إلا لبنان وأما في سوريا فمجرد مرور لا أكثر، وهكذا تعاظم وجودهم على الساحة اللبنانية، ويعتبر المحللون ان مجرد هذا الوجود سيؤدي الى فقدان التوازن السياسي اللبناني لمصلحة المسلمين، وهو أمر لاتقبله في تلك الأوقات القوى المسيحية بكافة انتماءاتها، أو تلك التي أطلق عليها لاحقا القوى الانعزالية.
///بعض بنود اتفاق القاهرة:
ـ تشكيل لجان للفلسطينيين وإنشاء نقاط للكفاح المسلح داخل المخيمات الفلسطينية ووجود ممثلين في الأركان اللبنانية.
ـ تسهيل المرور والطبابة والاخلاء والتموين للفدائيين.
ـ تأمين الطريق الى منطقة العرقوب ( جنوبي لبنان ) والسماح للفلسطينيين المقيمين في لبنان بالمشاركة في الثورة الفلسطينية).
كان الاحتقان إذن قد ارتفع مستواه بنسبة عالية في لبنان، وهنا لابد من الاشارة الى مشهد بيروت مثلا يوم تشييع اول شهيد لبناني مع المقاومة الفلسطينية عام 1969 وهو خليل عز الدين الجمل والذي كان قد سقط عام 1968 اثناء التدريب وتم دفنه في الأردن إلا أن أهله أصروا على دفنه في لبنان فتم نقل رفاته من مدينة إربد الأردنية إلى مسقط رأسه في بيروت، لكن جنازته حولت العاصمة الى مدينة مغلقة من كثرة المشيعيين الذين قيل ان عددهم تجاوز المليون والذين حولوها الى موقف سياسي واضح الى جانب المقاومة، مما جن جنون الطرف الآخر ( الكتائب وغيرهم) الذي كان يراقب عن قرب مايجري في لبنان ويعد العدة لمقاومته بكافة السبل والاساليب ومنها الأسلوب العسكري الذي ظهر لاحقا. كما لابد من تذكر ماقامت به اسرائيل من الإغارة في العام نفسه على مطار بيروت وتدمير جميع الطائرات اللبنانية الرابضة على ارضه وعددها 13 ردا على ماقامت به " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " من اختطاف طائرة في مطار اثينا. كل تلك العوامل وغيرها أوصلت الاحتقان الى ذروته.
كان لبنان إذن قد أصبح مستباحا من قبل المقاومة الفلسطينية، مكاتب تفتح، وإذاعات تذيع، وقواعد عسكرية في الجنوب تفعل ماتشاء فترد اسرائيل على القرى اللبنانية تدمر بيوتها وتقتل أهلها، وأما المخيمات فقد صار لكل منها أمنها الذاتي، وحتى ان بعضها كان يقيم نقاط تفتتيش على تخومها مما أزعج السكان وخصوصا من هم " كتائب " او محسوبين عليها.
في العام 1973 وقعت حرب اوكتوبر بين كل من مصر وسوريا واسرائيل، وكذلك حيد لبنان عنها، وعندما انتهت الحرب على الجبهة السورية التي أخذت وقتا أطول مما أخذته على الجبهة المصرية، وكان على رأس العمل الدبلوماسي الأميركي هنري كيسنجر يومها كوزير للخارجية الاميركية ومهندسها الأساسي، وصلت الأخبار الى لبنان أن هذا البلد على لائحة انتظار شيء ما سيقع فيه، وانه غير مقبول ان تكون هنالك دولة فلسطينية داخل الدولة اللبنانية، وكان كل يوم تندفع فيه الاحداث اللبنانية نحو الحدث الأكبر، خصوصا بعدما ثبت ان اكثر من ثلاثمائة ألف قطعة سلاح صارت بأيدي اللبنانيين، مما عنى في ذلك الوقت ان التراكمات وعوامل الاحتقان أدت الى التفجير الذي اعتبر يوم 13 ابريل 1975 بمثابة الشرارة ، وليست هي السبب البعيد ، بل السبب المباشر.
/// المساء الكئيب
كان مساء الثالث عشر من ابريل إذن كئيبا حيث كان الرصاص يلعلع بين منطقتي عين الرمانة والشياح .. انه الحادث الذي قصم ظهر البعير، والذي أدى إلى ما إدى اليه حين بدأت تتفجر عسكريا هنا وهناك، فيما كان يسد هنا، ينفجر هناك .. وقد سميت يومها بالجولات العسكرية وحملت مصطلح حرب السنتين، وكأنه مقرر لها ان تظل طوال هذه المدة .. وخلال تلك الجولات، كانت بيروت قد انقسمت الى قسمين، الشرقية والغربية، وأقيمت المتاريس في مواجهة بعضها بين طرفي الصراع حين وقفت بيروت الغربية بمحورها الاسلامي الفلسطيني الذي كان يقوده ياسر عرفات وقيادات فلسطينية أخرى الى جانب كمال جنبلاط وقيادات لبنانية من مسيحية وأسلامية ضد بيروت الشرقية بمحورها الكتائبي المسيحي .. وعلى محاور المنطقتين كانت تجري العمليات العسكرية وخصوصا في الليل، وكذلك عمليات الخطف من الطرفين .. وكل اللبنانيين الذين عايشوا تلك المرحلة مازالوا يذكرون ماسمي "السبت الاسود " في شهر ديسمبر من العام 1975 حين ذبح العشرات من الطرفين وعنفت فيه الحرب واستعرت بشكل جنوني.
لا مجال هنا للتفاصيل التي بلغتها الحرب اللبنانية، فهي كثيرة ويومية وعلى مدار الساعة.. فبيروت التي كانت توصف بالواحة العربية ولبنان الذي كان وصفه سويسرا الشرق صارا من الماضي بعدما بلغت فيه الحرب مبلغا، وبعدما صار الموت أقرب، خصوصا وأن المنطقتين، لم تكونا تتقاتلان فقط عند تخوم كل منهما، بل جاء بعدها القصف العشوائي بالمدافع بينهما، فلم يعد هنالك أمان لاعند المتاريس مباشرة ولا خلفها. وهكذا تحول لبنان في كل يوم إضافي إلى خراب كبير وإلى مقبرة تستقبل العشرات، ولم يكن سهلا الأمر أمام لعبة دولية كانت فيها لعبة الأمم في أوجها..
وفي العام 1976 كانت الحرب قد اختصرتها جولات عنف لامثيل لها، اقتربت ساعة انتخابات رئاسة الجمهورية، وكان رئيس الجمهورية يومها سليمان فرنجية جد النائب الحالي سليمان فرنجية .. كان لابد من اجراء الانتخاب ولو تحت الحراب، وقد جرت كذلك وتم انتخاب الياس سركيس الذي كان حاكما لمصرف لبنان رئيسا لجمهورية لبنان، في الوقت الذي كانت فيه امور الدولة اللبنانية تتضاءل، وعمل مؤسساتها يغيب رويدا. لكن الواضح في تلك الأيام أن جامعة الدول العربية أرادت أن يكون لها دور فاعل فتحركت بعد لأي، ثم تدخلت في لبنان عبر ماسمي قوات الردع العربية التي تألفت يومها من لبنان وسورية والسعودية والسودان والامارات واليمن .. الجدير ذكره ان القوات العربية السورية كانت قد دخلت الى لبنان قبل ذلك بعد طلب من قوات" الكتائب" والقوى المتآلفة معها والتي طلبت يومها من الرئيس الراحل حافظ الأسد التدخل بعدما تمكنت ماسمي أيامها بقوات " الحركة الوطنية " التي كان يقودها كمال جنبلاط من الوصول إلى أكثر المناطق المسيحية حساسية عبر نزال عسكري كبير.
/// السادات في القدس
كأنما كان الاتفاق الخفي أن تدوم الحرب اللبنانية سنتين فقط، لكن ما ان ذهب الرئيس المصري الراحل أنور السادات الى القدس عام 1977 حتى تغيرت اللعبة، واذكر أن أكفأ الكتاب اللبنانيين ميشال أبو جودة قد لاقاني في أحد المقاهي في بيروت يوم الاعلان عن رحلة السادات فطلب مني أن أترك لبنان على الفور لأن الأمور ستكون مأساوية، فرحلة السادات برأيه غيرت الاتجاهات السياسية ولسوف يكون لبنان برأيه ايضا ملعب المرحلة المقبلة، ولكن بشكل كارثي، وهكذا كان حين اضطر الرئيس حافظ الأسد لإعادة حساباته بأن شد قبضته على لبنان وكذلك فعل ياسر عرفات.
في ظل الحرب اللبنانية التي لم تهدأ، جاء غزو اسرائيلي لجنوب لبنان في 14 مارس 1978 ردا على العمليات التي كانت تقوم بها منظمة التحرير الفلسطينية ضد اسرائيل .. وصل الجيش الاسرائيلي الى نهر الليطاني بعرض 10 كيلومترات في الاراضي اللبنانية وعلى طول الحدود معها. انعقد مجلس الامن على الفور وأدان العدوان الاسرائيلي وأصدر قرارا حمل رقم 425 يطالب فيه اسرائيل الانسحاب الفوري الا ان اسرائيل كالعادة لم تنفذ، لكنها بحلول مايو1978 قامت بالانسحاب باستثناء منطقة تتراوح مابين 10 الى 14 كيلومترا اسمتها بالحزام الامني وثبتت عليها ماسمي " جيش لبنان الجنوبي " بقيادة ضابط لبناني عميل يدعى سعد حداد، استمر هذا الحزام حتى العام 2000 حين انسحب الاسرائيلي نهائيا إثر الضربات الموجعة التي تلقاها من عمليات حزب الله ضده.
كان عام 1978 ثقيلا على اللبنانيين .. فمن الاحتلال الاسرائيلي وما نتج عنه من حزام أمني، كان هنالك موعد غريب حين قامت ميليشيا" القوات اللبنانية " التي تزعمها بشير الجميل بقتل الوزير طوني فرنجية ابن رئيس الجمهورية السابق سليمان فرنجية وكذلك زوجته وابنته ونجاة الطفل سليمان من المجزرة .. ولم يقف بشير من تصفية كل حزب آخر في منطقته حتى لو أدان له، فبعد قتله طوني فرنجية قام بتصفية أقرب الأحزاب اليه وهم نمور الاحرار او جماعة داني شمعون ابن كميل شمعون رئيس جمهورية لبنان السابق ..
ولم تتوقف حرب لبنان فيما زاد عليها التدخل الاسرائيلي المباشر في شؤونها، حين قصفت طائراتها مقرات لمنظمة التحرير في بيروت ذهب ضحيتها اكثر من 300 شخص. في تلك الاثناء كان الاسرائيلي يخطط لغزو لبنان واجتياحه، واذكر ان صحيفة " السفير " اللبنانية التي كانت تصدر وما زالت، عرضت قبل أيام من الغزو سيناريو كاملا لاجتياح لبنان، خصوصا بعدما تم انتخاب مناحيم بيجن رئيسا لوزراء اسرائيل وتعيين اريل شارون وزيرا للدفاع، صارت الأمور واضحة حول صحة اخبار الاجتياح الذي وقع بالفعل في الخامس من يونيه 1982، واعتبرت اسرائيل ان سبب هذا الاجتياح قيام مجموعة أبو نضال الفلسطينية باغتيال السفير الاسرائيلي في لندن .. وخلال أيام قليلة احتلت جنوب لبنان كله وواصلت تقدمها بمساعدة قوات بشير الجميل " القوات اللبنانية " حيث وصلت الى عمق بيروت الشرقية التي تتواجد فيها تلك القوات، واعتبر شارون يومها ان الخطة تقضي بالوصول الى 40 كيلومترا عن الحدود الاسرائيلية وهي المسافة التي يصعب ان تصل فيها صواريخ المقاومة الفلسطينية او قذائفها الى حدود اسرائيل. وبعد تمركز الجيش الاسرائيلي في تلك المواقع، اصدر شارون قراره بإخراج المقاتلين الفلسطينيين من منطقة بيروت الإسلامية، الا ان ذلك لم يحصل، فقام بمحاصرتها لمدة سبعة أسابيع قطعت اسرائيل خلالها الكهرباء والماء والطعام والمواد الغذائية بشكل نهائي عن المدينة ثم قامت القوات الاسرائيلية بمهاجمة بيروت الغربية حيث تتمركز القوات الفلسطينية واللبنانية الوطنية عن طريق البر والبحر والجو وأدى القصف العشوائي الى مقتل آلاف اللبنانيين.
في هذه الأثناء كانت الوساطات تعمل بين المقاومة الفلسطينية واسرائيل عن طريق الوسيط الدولي فيليب حبيب .. وبعد كل ماجرى من دمار وقتل وحصار وتجويع، توصل الفريقان الى إخراج الفلسطينيين من لبنان على ان تقوم قوات اميركية وفرنسية بالإشراف على إخراج القوات الفلسطينية من بيروت، وهكذا حصل بالفعل .. ويذكر ان ياسر عرفات والقيادة الفلسطينية لم تكن لتبتعد عن مرمى القناص الاسرائيلي سوى مائة متر، كان الاسرائيليون يتفرجون على هذا الخروج الكبير لمقاتلي منظمة التحرير الذين ودعهم اللبنانيون بالبكاء والاحتضان وبإطلاق الرصاص بكثافة، في حين اتهم شارون الفلسطينيين بأن ثمة 2000 منهم مازالوا في المخيمات الفلسطينية .. بعدها تم انتخاب بشير الجميل رئيسا للجمهورية او لنقل صراحة تم تعيينه رئيسا تحت الحراب الاسرائيلية، لكنه بعد ذلك تم اغتياله ليتم انتخاب شقيقه أمين خلفا له .. إثر ذلك، قام الاسرائيلي بإرسال مئات من مقاتلي القوات اللبنانية الى مخيمات صبرا وشاتيلا الفلسطينية حيث ارتكبوا المجزرة الرهبية المشهورة وقاموا بتصفية مايقارب 3500 فلسطيني .. وقد أدت تلك المجزرة إلى سخط دولي عالمي على إسرائيل، وما زالت ذكرى تلك المجزرة تتكرر كل عام ولن تنسى لأنها الأقسى في حرب لبنان الطويلة. ولكي لاننسى، تجدر الاشارة إلى أن لبنان وقع مع إسرائيل اتفاقية سماها اتفاقية 17 ايار ( مايو ) تنص على انسحاب اسرائيل من لبنان شرط انسحاب القوات السورية على ان تنتهي حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل ولم يعد لها وجود. لكن لا سوريا انسحبت ولا الاتفاقية نفذت بل جرت حروب قاسية لإنهائها وهكذا حصل.
///... ولم تنته حرب لبنان
ظن كثيرون أن خروج الفلسطينيين من لبنان سيؤدي الى انتهاء الحرب اللبنانية وعودة الأمور الى نصابها، لكن ذلك لم يحصل ،، فعلى إثر الاجتياح الاسرائيلي بدأت حرب جديدة بين اللبنانيين يبدو أنها تصفية حسابات .. ففي اغسطس 1983 انسحبت اسرائيل من جبل الشوف ( الدرزي ) فاندلعت على اثره معارك عنيفة بين الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يتزعمه وليد جنيلاط وبين " القوات اللبنانية " المسيحية سقط على إثرها قتلى كثيرون، واستمرت أياما، فاعتبرت أعنف مظهر لحرب لبنان انتهب الحرب بهزيمة مدوية ل " القوات " وانسحابها الى بلدة دير القمر ومن ثم الى بيروت الشرقية .. من نتائج حرب الجبل انها فتحت الطريق للمقاومة نحو الجنوب وأصبح السوريون قادرين على تسليح المقاومة كما أنها أدت الى بداية سقوط 17 ايار ( مايو ).
ولم تنته الحرب اللبنانية، فهذه المرة أضيفت إلى لائحتها أهداف جديدة مثل استهداف المصالح الاميركية بدءا من السفارة التي تم تدميرها، ثم بناء المارينز عند مطار بيروت حيث سقط على إثر عملية انتحارية أكثر من 241 جنديا وكذلك الحال مع القوات الفرنسية التي تم تدمير مبناها وقتل 58 جنديا أعقبها اغتيال رئيس الجامعة الاميركية في بيروت، وحين انتقلت السفارة الاميركية الى مكان آخر اكثر تحصينا جرى استهدافه ايضا مما أدى إلى قتلى. كانت تلك العمليات بداية الاعلان عن تنظيم جديد بدأ على الساحة اللبنانية وحمل اسم المقاومة الاسلامية او حزب الله، وأعلن عن أهدافه بإخراج اسرائيل من جنوب لبنان، وكانت المفاجأة الأخرى حين تم استهداف مقر الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية في مدينة صور بعملية انتحارية حيث دمر المبنى وقتل يومها خيرة ضباط هذا الجهاز، وجاء شارون على عجل ليتفقد المشهد وعلامات الأسى على وجهه، وكأن لسان حاله يقول، كل هذا المكسب الذي حققته اسرائيل ذهب هباء، وثبت ذلك بالفعل لاحقا، حين لاحق حزب الله الاسرائيليين وأعوانهم من الجيش الجنوبي الذي أقام في الحزام الامني الذي تمدد ايضا اكثر من السابق حتى كان التحرير الكامل للأراضي اللبنانية كافة في العام 2000.
/// حروب داخلية جديدة
كان إيقاع الحرب اللبنانية يمر بمنعطفات غريبة، فمثلا وبدون سابق انذار وقعت حرب طاحنة سقط فيها الآلاف من الطرفين وكانت هذه المرة بين أبناء الصف الواحد، بين حركة أمل التي يتزعمها نبيه بري والذي كان أسسها الإمام موسى الصدر، وبين الفصائل الفلسطينية في المخيمات وسميت بحرب المخيمات استمرت لاكثر من سنتين تقريبا، في وقت هاجمت فيه قوات من حركة امل ومن الحزب التقدمي الاشتراكي " حركة المرابطون " وأخرجتهم من بيروت، ثم عادت واشتبكت حركة " امل " والحزب الاشتراكي في جميع انحاء بيروت لاسباب غير مفهومة مع انهما يشكلان قوة سورية في لبنان، ولولا تدخل القوات السورية آنذاك لتم تدمير بيروت على رؤوس ساكنيها.
لم تنته الحرب اللبنانية وليس في صورة الواقع اللبناني مايؤذن لانتهائها .. فبعد ماجرى في الصف الاسلامي من تصفيات ومعارك، جاء هذه المرة الدور على الآخر .. كانت فترة حكم امين الجميل قد انتهت دون وجود بديل مكانه مما دفعه لتسليم الجنرال ميشال عون الذي كان قائدا للجيش رئاسة الوزراء في لبنان، الأمر الذي اعتبره المسلمون تعديا على الدستور فما كان منهم إلا أن قاموا بتعيين سليم الحص رئيسا للوزراء ايضا، وهكذا اصبح لبنان بشكل كوميدي بوزارتين مختلفتين، حكومة عسكرية في بيروت الشرقية وحكومة مدنية في بيروت الغربية ، ومن مساوىء القدر ان الوزارتين كانتا على اتصال بسفاراتهما في الخارج فضاع السفراء والشأن الدبلوماسي اللبناني تماما بين الاتجاهين المختلفين.
ولم تمض الأمور على هذه الحال حتى اندلعت حرب طاحنة بين القوة العسكرية لميشال عون وبين قوات سمير جعجع أدت الى الفتك بالمناطق المسيحية في شرقي بيروت وصولا الى مناطق كسروان والمتن، وسميت تلك الحرب يومها بحرب الالغاء. وفي ظل هذه الحرب كان ميشال عون قد رفع شعار حرب تحرير لبنان من السوري وبدأ الاشتباكات معه في أكثر من موقع، وبالطبع كان مدعوما من أكثر من جهة وخصوصا من الجانب العراقي.
شلال من الدماء عرفته الحرب اللبنانية، وخراب كبير خرجت به تلك الحرب أهمه تلك النفوس المريضة التي عاشت الموت اليومي والقصف والرصاص ومسلسل الأحداث. وكانت نتيجة ذلك مقتل أكثر من مائتي ألف في بلد يبلغ تعداده السكاني اربعة ملايين، وإلى إعاقة الآلاف ايضا، والى تغييب الآلاف ..
دامت الحرب اللبنانية أكثر من المتوقع ، لكن المتقاتلين الذين تعبوا لم يساعدهم أحد على رؤية آخر النفق الذي بلغوه ، سوى ان بوادر ازمات دولية كانت تلوح في الأفق ساعدت على دفع تلك الازمة الى إخراج عربي ودولي .. وأذكر ان دولة الكويت عهد إليها بالبحث عن خلاص للأزمة اللبنانية فأوكلت ذلك الى أحد كبار سياسييها الذي وضع دراسة مطولة بعدة اجزاء توجز بان لاحل لها الا بمؤتمر دولي .. على هذا الأساس أوكل اتفاق دولي مع جامعة الدول العربية الى الاخضر الابراهيمي القيام بمحاولة التقريب بين الفرقاء اللبنانيين بغية التفاهم على حل للازمة ، وفي وقت كاد فيه ان يسقط قتيل الحل ، بعدما سقطت قذيفة قرب موكبه في منطقة الجناح ببيروت، لخص الابراهيمي محاولاته وزياراته المكوكية بان لاحل الا بمؤتمر دولي ايضا .. فكان ان أعلنت السعودية عن رغبتها بتبني هذا المؤتمر الذي كانت الولايات المتحدة من الموافقين عليه وكذلك سورية .. وهكذا اقترب الحل بعدما طرح اسم مدينة الطائف كمكان يلتقي فيه اللبنانيون من أجل البحث عن هذا الحل ، والملفت ان المتقاتلين لم يلتقوا ، بل النواب اللبنانيين وخلفهم بعض السياسيين ولعب رفيق الحريري يومها دورا كبيرا في التوفيق بين الافكار رغم انه لم يكن معروفا في لبنان الا كرجل اعمال .. وبعد بحث مستفيض دام اسابيع بين أخذ ورد تم التوقيع على اتفاق انهى الأزمة فكان إعلانا واضحا للحل تحملت سوريا فيه عبء تنفيذه وتحملت ايضا أمن الساحة اللبنانية وغيره.
وما أن عاد النواب اللبنانيون الذين وقعوا الاتفاق الى لبنان حتى قاموا بانتخاب رئيس جديد للبلاد هو رينيه معوض الذي لم يعترف به عون وقد تم اغتياله يوم عيد الاستقلال في لبنان، فاجتمع النواب مرة اخرى وانتخبوا الياس الهراوي فلم يعترف به عون ايضا، مما أدى لاحقا إلى إقصائه عن القصر الجمهوري الذي كان يتمترس فيه طيلة وجوده في الحكم ، فهرب الى السفارة الفرنسية في بيروت ثم توجه بعدها الى باريس.
وبرأي لبناني فإن اتفاق الطائف مثل قفزة عملاقة في طريق حل المشكلة اللبنانية، وقد تمكن هذا الاتفاق بعد تمحيص ومناقشات ومناكفات ورفض وقبول إلى إقرار صيغة إنهاء الحرب التي انتهت بالفعل .. ورغم ان بنود هذا الاتفاق لم تنفذ كما يجب إلا أنه ظل العامل المساعد لتوقف الحرب وعدم تجددها وإن كانت لاحت بين الفينة والأخرى عوامل توتر داخلي ما تلبث أن تنتهي حال تدخل الجيش اللبناني فيها.
أهم ما نص عليه اتفاق الطائف ان لبنان وطن حر سيد مستقل وطن نهائي لجميع أبنائه واحد أرضا وشعبا ومؤسسات في حدوده المنصوص عليها في الدستور اللبناني المعترف بها دوليا. وان لبنان عربي الهوية والانتماء وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم بمواثيقها كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الامم المتحدة وملتزم بميثاقها، وهو عضو في حركة عدم الانحياز وتجسد الدولة اللبنانية هذ المبادىء في جميع الحقول والمجالات دون استثناء. ثم ان لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية... الخ .. كما انه ينص على بسط سيادة الدولة على جميع الاراضي اللبنانية. ثم تحرير لبنان من الاحتلال الاسرائيلي، وفصل كامل عن العلاقات اللبنانية السورية المميزة.

زهير ماجد - كاتب لبناني