[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
مَن مِن قراء الملاحم ونصوص المسرح اليوناني القديم يتذكر هيكوب "هيكوبا" أرملة الملك بريام ملك طروادة، تلك السبية الشقية التي تتقدم رتلًا من النساء بلباس الحداد، تبكي أبناءها وزوجها وبلادها ومملكة كانت مزدهرة ومعها ومن خلفها الطرواديات، على شعب وبلاد أوقعهما حب في أتون حرب مدمرة أدت إلى خراب المدينة "الدولة" وقتلِ أبنائها وسبي نسائها على يدي الإغريق كما تقول روايات التاريخ أو أساطيره؟! حيث جهّز اليونانيون جيشًا ضخمًا على رأسه أغاممنون لغزو طروادة ومحاربتها انتقامًا من باريس بن بريام الذي خطف هلين زوجة مينلاوس، تلك الجميلة ذات الشعر الذهبي والقد الأهيف. لم تكن هيلين المرأة تستحق كل هذا الدمار، ولم يهنأ غزاة طروادة بنصرهم، فالقائد المنتصر أغاممنون يعود بعد انتهاء الحرب ليلقى مصيره على يدي زوجته كليتمنسترا وابن عمه الذي كان يعاشرها مدة غيابه، مصداق نبوءة كاسندرا ابنة بريام، الفتاة المتنبئة التي كانت في السبي؟! أنا واحد ممن يستعيدون ذلك الركب الحزين الملفوف بالسواد الغارق في البؤس، المدلج على وقع النحيب، أستعيد مشاهد لسوريات بحزن طرواديات وأكثر، يسرن أو يقمن في مواقع وبلدان شتى، بعضهن يندبن الحبيب والقريب وظلم الطغيان وقسوة الغريب، وبعضهن يبكين الوطن وأهله وعزه، وبعضهن يبكين حظهن العاثر وما ألم بهن في المنافي حيث الألم والبؤس واليأس .. وبعضهن يثُبن إلى مثابات الصبر ويتفيأن الأحلام، وينتظرن الغد وإشراق الشمس بأمل..
كأني اليوم أستشرفهن بين ناحبة وثائبة وحادية بين أقران وأتباع، تنثر شعرها في الريح وتعفر وجهها بالتراب وهي تخاطب أشباح ذويها وتعاقر ألمها المعتق، في غربة ذات ألوان وشُعب: غربة عن البيت والأهل، وغربة عن الوطن ومبانيه ومعانيه، وغربة في الناس عن الناس، وغربة عن النفس ذاتها وعن الأمل ذاته .. بعد أن تاقت وذابت أو كادت ولمّا تبلغ فرجًا بعد الشد أو تقاربها!! .. إن صدى صوت حادية السوريات اليوم، أو صدى أصواتهن المتوحد في حادية، يتردد في المدى بعد المدى ليجتمع وترددات الصدى مع صوت هيكوب وأصوات الطرواديات الأخريات في حزن أسطوري يدخل في أطوار الأسطوري من قتل ودمار واحتراب وقسوة قلوب وتفتت أكباد، من جراء ما يجري في الوطن وما جرى ويجري عليه، باسم حبه والحرص عليه، من "محبين" لا يرون إلا أنفسهم فيه، ويسترخصون حياة بنيه وتاريخه وكل ما فيه وما يعنيه لهم خاصة وللبشرية عامة من مجد وحضارة ورشد وسؤدد؟!..
كأني بالسورية اليوم أسطورية في ثوب حداد أحلك من ثوب "إلكترا" ذات الحداد، تدخل في حال بؤس لتخرج منها إلى حال تقارب اليأس، وتبقى الحياة في كدرها وصفوها، وتبقى أملًا وصبرًا ومفاتيح أبواب الضيق، فهي الأم السورية المخصاب، وعشتار المحبة، وسر الحياة الذي شغل جلجامش وأضناه .. وأراها في معاناتها وفي تأملاتها فأتقمص بعض الحال فيما يفيض منها من مقال، أو أرى لها وجهًا أملًا وأتبين لها أبواب فرج من خلال ألمها معبرًا عن ذلك بأقوال .. فأنا ابنها أو أخوها أو أبوها، أو زوجها وتجليات الحياة فيها، وهي سورية والسوريين في أحوال، ولذا أخالها في حالاتها تلك وتحولاتها تقول فيما يشبه الإحالات:
ـ 1 ـ
".. أنا .. من يليق بقامة الحزن الفارعة ومن يعيش عطاياه الماتعة .. أنا عليلُته وخليلُته ونخيلُه السامق وربانه في بحر الظلمات ودليلُه في التيه أي تيه، حيث أصبحت الأخبر في المنافي والتيه .. إن أعوَز الألم مكان فقلبي هو المكان، وإن أعيته حاجة فأنا من يلبي الطلب ويقضي الحاجة .. كل خلية من خلاياي له ميدان ومرتع ومستقر وأمن وأمان، وما عليه إلا أن يصهل ويرمح كما يشاء .. لا أدري من الذي نذرني له ولا من تخلى عني لكي ينذرني له لكنني أشعر بأنني منذورة ومجذورة .. منذ بدايات البدايات وجدت نفسي أمامه مستباحة عارية من كل وسيلة للدفاع ضد قوته القهارة واستبداده الأبيد .. ربما لم يكن الشعور بتلك الاستباحة على درجة عالية من الوعي بها في السنوات الأولى من عمر الأزمة/ الحرب/ الجنون الذي غزا الوطن ـ العمر .. ولكن ما إن تعثرت بالوعي أو تعثر بي الوعي حتى شعرت بمدى تلك الاستباحة وما يتفطر عنها من ألم وظلم وفداحة، وهي تتملكني من دون أن تجعلني أفكر حتى بالخلاص منها، أو بأنني قد أكون اخترت استباحتي تلك وقهري؟! .. لقد أحسست بما يرافق الاستباحة من ألم يجرِّح الروح .. فمن تراه يشعر بمُدى الألم وهي تجرِّح الروح من دون أن يستبطن ذاته بوعي أو يغزوه أمل بالخلاص يسوقه إلى بعض الوعي بذاته؟! .. الاستباحة مما لا يمكن أن يدخل في الإنساني من فعل الإنسان على أية حال، أما الألم فشيء يستعصي على الوصف ويستعصي على النسيان..
ـ 2 ـ
الألم .. الألم .. الألم .. من تراه قاربه مراقبًا شبه محايد ليعرف كنهه ويفهم أبعاده؟! لا شيء سوى التجربة والمكابدة والإرادة المتعالية على الجرح والنزف تجعلك تفهم الألم وأنت تغوص في أعماقه وهو ينهش أعماقك، وأنت تحاول أن تدرك كنهه وتفاصيله وتبحث عما يخفف وطأته عليك وينحيه بعض الوقت عنك؟! .. الألم يعتصر كل شيء في الإنسان من جسده إلى روحه مرورًا بكل مكونات نفسه. في ساعة الشدة التي يضعك فيها ألم خاص بك نابع من تكوينك العام وليس من مشاركتك الآخرين آلامهم .. تعرف، أو يمكن أن تعرف، أنه ذلك الذي يصهرك وقد يعيد تكوينك ويجعلك تقف على مدى ضعف الإنسان الذي هو أنت، ويريك أيضًا صورة ذلك الإنسان المعجِز الذي هو أنت أو سواك في لحظات الصحة والقوة والصحو والتوهج العاطفي والروحي والعقلي، بعيدًا عما تريك إياها حالات الذبول .. إنه يريك الإنسان في أطوار بعد أطوار، يريك إياه بين جبار لا يسعه العالم ومنهار لا يكاد يميز نفسه عن أبسط شيء بالٍ يحيط به في هذا العالم، ويريك إياه بين قاتل في طور تغريه إراقة الدم بمزيد من إراقة الدم، وبين خائف يرتعد من فكرة البطش ومن صورة انصباب الدم من جرح وانكسار الإنسان في جحر .. يا له الإنسان من نقائض في كيان مهما حاولت أن تعرفه وتفهمه فإنه يبقى عصيًّا عليك وشبه مستعصٍ عن الفهم بين يديك .. لقد دخلنا دوامة المحنة ولا نكاد نفهم كيف دخلناها ولا كيف السبيل إلى الخروج منه.
أيها الإنسان لا ترفع قامتك كثيرًا، ولا تضع نفسك فوق حقائق تكوينك .. إذا كنت تريد أن تبقى على معرفة بمن أنت في الواقع ومن أنت في التوهم والحلم، بمن أنت في ضعفك ومن أنت في تجليات قوتك، وبمن أنت في بُحران توهمك أنك فوق القوة وأنك قادر على تغيير العالم من دون الآخرين ورغم الآخرين من شركائك أبناء العالم .. لا تتوقف في محاولات سبر أسرار الألم عند حالات الألم العارض التي تعتريك عندما ترى البؤس البشري يستنزف فتنزف، ولا عند فتك الألم الذي يحز روحك من جراء فعل يبوح ولا يبوح، ويستبيحك ولا يريحك ولا يروح .. لا تفعل فقد يؤدي التعامل السطحي مع سطح الألم إلى سطحية في الفهم وغوغائية في الفعل، وقد يؤدي الألم الحاد إلى منعكسات تمرد في حالات، وقد يغيرك من خلال الفتك بك في أحوال وقد يغريك بما لا يفيدك ولا يشفيك .. لا تفعل، بل اذهب إلى فهم ألم الجسد الفتاك الذي يحيلك خرقة مبللة بالدم وربما بالقاذورات، ويجعلك لا تقوى حتى على النهوض من مكانك أو تحريك بعض جسمك وأدواتك، ويحول بينك وبين الراحة والنوم والقيام بأبسط شؤونك وتلبية أبسط حاجات جسدك، اذهب إليه رغم المعاناة إذا ضمنت أنه يعيد صهرك وسبكك وإقامتك على الصراط لتستقم كما أمرت وتفهم كما خلقت .. وتذكر دومًا أن الألم طاغية مستبد لا تعرف الرحمة إليه سبيلًا، إنه يحكم وينفذ ويتابع تفاصيل أوامره من دون كلل أو فتور أو ملل .. آهٍ يا لمهابته من مهابة، ويا لفتكه من فتك، ويا لعالمه من عالم .. إنه يدخلك في برازخ لا تكاد تخرج منها، فتجدك منهكًا وتجد صدرك حرجًا وتحسب أن الدنيا ضيقة مدى الضيق، وأنها تضيق بك وتضيق بها، فتسهو عن قوله تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ)الأنعام: ١٢٥ .. والفطنة مطلوبة لدقة التوصيف وحسن الإدراك.. والله من وراء القصد.
ـ 3 ـ
أنا/نحن .. في الغربة أو في التيه لأننا خارج حضن الوطن أو خارج حنان المواطنة، تلك الصحة التي تشبه تاجًا على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى .. رحم الله الشاعر عمرو بن الأهتم القائل:
لَعَمرُكَ ما ضاقَت بِلادٌ بِأَهلِها وَلَكِنَّ أَخلاقَ الرِجالِ تَضيقُ
الدنيا ذاتها لا تضيق بأحد، الأشخاص هم الذين يضيقون بها، لا سيما حين تُسد أمامهم منها أبواب ولا يرون أبوابها المفتوحة، وكم فيها من أبواب مفتوحة تدركها البصائر ولا تراها الأبصار .. فكلٌ يرى بعيني قلبه ومن زاوية حاجته ووقته، وربما من خلال ما يداخل تكوينه من مورثات وما يتمتع به من صفات .. ولكن من بين بني البشر من يطيب لهم أن يرتفعوا إلى درجة تريهم أنفسهم أنهم مركز الدنيا كلها، بمن فيها وما فيها، وأنها تدور في فلكهم ولا يدورون في فلكها؟! .. هو الإنسان طموحٌ فوق الحد وتطلُّع إلى ما لا يُحَد وضعف قد لا يعرف له أحد حدًا .. وهذا ما يقع غالبًا للمرء جراء طغيان وهمه وحلمه وأمراض في نفسه وفي تكوينه، ويتجسد هذا الطغيان وفي أشخاص هم نماذج له، كما يتجلى في مراحل من العمر وفي حالات من الشعور عبر مساحات من الوقت لدى الشخص، وهو الغلو في رؤية الذات لنفسها .. وقد يتشامخ الشخص من أولئك وهو في مضائق وبرازخ من الرؤى محاولًا أن يضفي على الدنيا رؤاه وأن يلونها بألوان نفسه، متهمًا إياها بما يضيق صدره عن استيعابه وبصره عن رؤيته وعقله عن إدراكه وبصيرته عن تبصُّره، ولا يرى ما يمكن أن يشكل تهمة له بل قصورًا فيه .. فسبحان الله الذي قال في محكم تنزيله: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) يس: ٧٧ والحمد لله على كل حال.

ـ 4 ـ

اهدأ يا قلب فقد أتعبتني وتعبت .. لا أمل في صلاح من هم حولك، ولا أمل في التخلص منهم أو بالتخلي عنهم .. فهل لا يوجد أمل في إصلاح أمرك إلا بإصلاح سواك وبيئتك ومحيطك؟! الحياة الموت .. هكذا قد بدأت منذ زمن بعيد وسوف تستمر ما دمنا على هذا الحال، ويبدو أنه لا مخرج من هذه الحياة الموت إلا بقهر الموت .. ومن تراه يقهره؟!
أعرف وأقتنع معك بأن الموت أرحم ولكن هل نملك يا قلبي قدر الله؟ وهل نتطاول على الحياة التي منحنا إياها الله لكي يتوقف الألم الذي نشعر به وتتوقف معاناتنا، وهما ملازمان للحياة؟! الله أعرف وأرحم بنا من أنفسنا، وعلينا أن نصبر على تكليفه فالحياة نوع من تكليف ونحن لم نخلق عبثًا. لا تتطلع حولك يا قلبي حتى لا تزداد ألمًا وبؤسًا، كل الوجوه ذات أقنعة لكن سماكة الأقنعة وأشكالها وأحجامها وألوانها وتفاصيلها تختلف وهذا لا يغير من حقيقة وجودها.
تعبت، وحال بيني وبين الراحة عقل لا يتوقف عن إلقاء الأسئلة، وذاكرة متخمة بمخزونها تنزُّ أحيانًا بل تتدفق بكل ما اختزنته، وضمير له أكثر من مخلب وناب، يحاسب ويعذّب، وله ألف لون ولون من العقاب والعذاب. يا قلبي نحن في العذاب أنا وأنت، وأنا أنت، ولا مجال لأن أكون أنا أنا وتكون أنت أنت، فالكثرة واحد في المآل .. ماذا نملك من أمرنا وماذا نفعل من أجلنا .. لا شيء إلا أن نصبر ونُقبل على الحياة بكل ما فيها ونحاول أن نجعلها أفضل؟!
لا أريدك أن تتماهى مع اللاإدرية والبلادة ولا أن تغرق في التمرد والعبث، لا تدر ظهرك للوجود فإنه يواجهك أينما استدرت .. لا تفعل فذاك أكثر من موت ويضاعف الإحساس بالموت .. ولا أريدك أيضًا أن تبالغ في الانفعال والاضطراب والتخبط، فأنت تتعبني في هذه الحالة ولا تتعب سواي، وتجر علينا نحن الاثنين وحشية من يتحركون بأقنعة عليها ملامح الابتسام ويحملون تحت آباطهم خناجر مسمومة.
يا قلبي تعال نبحث عما يصبِّرنا ويرتفع بنا عن كثير مما يرهقنا، فلنتنازل يا قلب عن كثير مما يعني الخلق ويشغلهم ويجعلهم يتصادمون ويتصارعون ويسيلون في الطرقات سفاهات وغضبًا ودمًا لزجًا .. تعال نكتفي بالتأمل فلعل في ذلك أمل .. وليقل عنا الخلق ما يطيب لهم أن يقولوا .. فإذا كانوا يستبيحوننا ويسترخصون دمنا ويمتهنون عذابنا .. فهل نحتج على ما يلوكونه من كلام بالسقوط إلى مستوى المسافهة في الكلام؟!
نعم الكلمة سيف يا قلب، ولكن عند الشخص الذي يرتفع إلى أفقها ويرى فيها شفرة سيف .. أما من لا يقتله السيف يا قلب فيمكن أن يدرأ عن نفسه سيف الكلمة حين يشهر عليها وعلى السيف معًا سيفَ الحكمة والصبر وسيف دمه، فقد ينتصر الدم على السيف وقد تنتصر الحكمة والله مع الصابرين. تعال يا قلب إلى ظل ظليل ومقيل تحت شجرة من أشجار الوطن أو تذكر بها، أعرف أنك تحلم بنبع ماء صاف أو بساقية عذبة الماء فضية اللون ذات سقسقة أو خرير يجعل موسيقا الماء تتغلغل في الأعماق وتحيي موات النفس، وتحلم بالبيت ومساكنة الطير زهو الشجر لكن .. لكن هذا ما بيدنا اليوم .. تعال وليكن لنا من ذاك نصيب مهما قل، فما لا يدرك كله لا يترك جُلّه، وما يعييك الحصول عليه لا تيأس من أن تحلم بالحصول عليه، وليجعلك الأمل تسلك سبلًا إليه .. فتلك معالم حياة.
اهدأ يا قلب، وتفاءل يا قلب .. وتُرفق بي وارحَم يا قلب، فقد هدني الألم ويهدني الخوف مما لا أعلم ما يخبئه لنا الغيب .. واهدأ واصبر فإن الله مع الصابرين.