الذي يتأمل تفاصيل المشهد يُصاب بنوع من التوتر الداخلي لأكثر من سبب، أولها حنقه على حنظلة لاختياره هذه الزاوية من المكان، إذ يبدو للوهلة الأولى عبارة عن شخص أبله، لا يرى المساحات الفارغة في المكان، وزجّ بنفسه في مكان ضيق، لكن صدمة المشهد سرعان ما تخلق وعيا آنيا، ليطرح المرء سؤالا عن سبب الاختيار، ثم يتطور التساؤل ويتفاعل عندما يشعر الشخص أنه أمام كاريكاتير، ثم يعيد حساباته عندما يدرك أن الذي حشر نفسه «حنظلة» وأن الغائب الحاضر في هذا المشهد ناجي العلي. وأن المكان أبعد من قاعة عرض سينمائي، وأن القصور في الرؤية أمر مقصود، وأن التساؤلات والتداعيات أحد أهم أهداف هذا الرسم الكاريكاتيري.
يقدم الراحل ناجي العلي وصفا دقيقا لصديقه ومشاكسه «حنظلة» يقول:
ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين، وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء. وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: كتفته بعد حرب أكتوبر 1973م لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأميركية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبعا.
رحل ناجي العلي وبقي «حنظلة» خالدا حيويا متفاعلا ورغم أكداس الغبار والتراب والعتمة، إلا أن أملا واضحا يتنفسه المرء عندما يلتقي حنظلة، ويحكي له القصص الصامتة والصاخبة، في صمته يشهق وفي صراخه يخفي الكثير، ينثر لوحاته في الأماكن القصية وفي مسارب نائية يتداخل فيها اللون بالآخر.
ربما لو رسم ناجي العلي تلك اللوحة في واقعنا العربي الحالي لاختلفت تماما، رغم كل ما تحمله تلك اللوحة من لوعة حقيقية، ورغم الظرف الذي كان يعيشه ناجي ويشعر بالمأساة التي نعيش، في ذلك الوقت كانت الأنظار تتجه جميعا صوب فلسطين وما تعيشه من ضياع، لكن الوقت الحالي يدهم حياتنا ضياع غريب وضياع مركب وضياع لا نعرف متى ننفك منه وينفك منّا، فقد تنوعت العناوين وتداخلت الساحات وضاعت البوصلة عن الكثيرين، فهل يختار آلاف الناس مقعدا واحدا ويتركون المقاعد الأخرى، أم أن حنظلة وحده الذي يجد الحلول وسط الغشاوة التي تسود عوالمنا؟■