أوه يا مال .. أوه يا بحر
العمانيون لهم تاريخ موغل في القدم ولهم الكثير من المواقف التي صادفتهم في ترحالهم إلى كثير من البلدان حيث أنه لم يكن فقط بين دول الجوار وإنما تعدى ذلك إلى بلوشستان وبندر عباس في إيران إلى أن بلغوا ساحل الملبار بالهند وكذلك السواحل الأفريقية البعيدة بدءا من مدغشقر في الصومال مرورا بجزر القمر وزنجبار ورواندا وبروندي والساحل الكيني في شرق أفريقيا والتي كان بعضها ضمن نطاق الإمبراطورية العمانية آنذاك.
وخلال رحلتي الأخيرة إلى شرق أفريقيا التقيت بالكثير من العمانيين المقيمين في هذه القارة حيث حكوا لي عن كيفية قدومهم إلى هذه السواحل في ذلك الزمان الغابر ، هذه الحكايا والروايات رواها من هم على قيد الحياة ومنهم من روى لي سيرة أبيه بعد بلوغه إلى هذه السواحل ، وذلك بعدما التقيت بالعديد منهم مرتئيا أن أقدم للملأ جانبا من جوانب هذه الشخصيات تباعا كلا على حده وستتبعها شخصيات أخرى بعد ذلك، وسأبدأ مقالي هذا برحلة أحد الرواد ـ رحمه الله ـ مستعرضا حياته المليئة بالكفاح والصبر متوقفا في الوقت نفسه عند هذه الشخصية وهي حول رحلة قام بها ولم تؤرخ أو تسجل و رحلت برحيل أصحابها ، وذلك بعدما حدثني أحد من رفقاء دربه من هم لا زالوا على قيد الحياة ، وهنا أعني بشخصية المرحوم علي بن حمد العنقودي.
وقعت هذه الحادثة في فترة أواخر الخمسينات من القرن العشرين حيث كانت شخصيتنا في ريعان شبابه وهو في العقد الثاني ، كما أن مولده ونشأته في زنجبار التي ولد بها إثر هجرة والده من عمان ، وقد التحق بمدارس القرآن مثل بقية أقرانه حيث نشأ وترعرع على يد كبار العلماء الأجلاء في عصره ، كما أنه عمل في التجارة من خلال محل تجاري بسيط وفي عام 1958 آثر أن يقوم بزيارة الوطن الأم وهي بمثابة أول رحلة له خارج الجزيرة.
هذه الرحلة كان لها أن تكون ، وذلك بعدما استبد به الشوق نحو زيارة من تبقى من أهله في عمان ، كما أن والده وبقية أفراد الأسرة في الساحل الأفريقي حاولوا إثناءه عن السفر لكنه كان عازما في ذلك إذ سافر على متن سفينة (البوم) وعلى ظهرها العديد من الركاب حيث يملكها نوخذه يمنى وبرفقته عدد من البحارة يعملون تحت إمرته ، وذلك للقيام بواجباتهم على أكمل وجه ، كما يمكن رؤيتهم مع مساعديهم وهم يشحنون خشب الأشجار (الكندل) وهو ثقيل جدا لكنه جزيل المنافع وكثير الفوائد نحو بناء أسقف للمنازل ، وقبل أن يبحر أي نوخذه بالمركب وبرفقته محمل الركاب ، يقوم بتجميع الركاب من حوله كي يصغوا إليه إصغاء تاما وهو يتحدث إليهم بأوفر جرأة عن مسار الطريق البحري الذي سوف يسلكونه ، كما أن هذه المراكب تتميز ببطنها الواسع وقد عملوا بداخلها حوضا لحفظ الأسماك، بعد ما عملوا لها ثقوبا كي يصل إليها ماء البحر دون أن ينتج من ذلك أي خطر أضف إلى ذلك الاستفادة منها عندما لا يتأتى لهم الصيد أثناء اشتداد هيجان البحر وهم من سوف يبحرون طيلة شهر كامل.
كانت شخصيتنا تتمتع برباطة الجأش جذل النفس شديد الإيمان راسخ العقيدة وبرفقته ( 4 ) من رفاقه وعدد من الركاب من أهل زنجبار والصومال واليمن وعمان كل في وجهته وكلهم على قلب واحد مع طاقم المركب من البحارة والنوخذه ، كل هؤلاء في مأمن بمأكلهم ومشربهم ونومهم حتى تتوقف وتصل إلى أولى المرافئ بعد مغادرتها ميناء (ماليندي) في زنجبار.
أثناء الإبحار في هذا البحر الشاسع المترامي الأطراف أخذت السفينة تبحر في لجة ماء البحر مجتازة في طريقها أرخبيلات وجزرا تزينها خضرة وبعضها تدب فيها الحياة وبعضها يرتسم بها القناء ، واذا ما تكشفت لهم اليابسة يكون ذلك إلى أول المرافئ التي سيتم التوقف بها.
كانت السفينة تمخر عباب البحر وهي تقترب شيئا فشيئا نحو أقرب مرفأ بعد ما تهادت من بعيد منارته ، لكن سير السفينة بدأ يتباطأ بعد ما عرف النوخذه إن تلك المنارة ما هي سوى مرفأ (مقديشو) في الصومال وهي مدينة حسنة المنظر ومرفأها عامر بالمراكب التي لا تعد ولا تحصى، لكن بطء سيرها كان مخافة أن تصطدم بأي من الصخور التي تنتشر في القاع لا قدر الله.
هذا التوقف بمثابة (ترانزيت) كما يطلق عليه في الوقت الحاضر ، وذلك كي ينزل عدد من الركاب ويركب آخرون ضعفهم باتجاه المحطة القادمة ، كان توقف السفينة ليس ببعيد عن البر وهي التي من الصعب عليها أن تجسر نحو الدنو أضف إلى أن المرفأ ليس بذلك العمق المتعارف عليه حيث تأتي قوارب صغيرة تنقل من أراد أن ينزل من الركاب.
بدأ الظلام يوشك أن يرخي سدوله حيث رفعت أناجر السفينة معلنة استئنافها السفر وأخذ النوخذة يقرع جرسا ثلاث مرات مبتغاه أن ينصرف بعد ما ركب كل الركاب حيث ابتدأ في الانصراف من ( مدغشقر ) رافعا ( 4 ) من سواري السفينة ، وذلك كي يدفعوها نحو التحرك ، كانت السفينة تكتظ بالركاب ناهيك عن الحمولة التي ابتاعوها من مواش وسلع وتوابل وغيرها من المؤن حيث مروا بعد ذلك على المحيط الهندي وجزيرة سوقطره وموانئ البحر الأحمر.
أما أثناء سير السفينة يكاد المرء عند الإبحار في هذه البحار الشاسعة أن يسرح بخياله الواسع دون رؤية أي شيء سوى زرقة البحر والسماء ، لذلك يتململ الركاب من طول الرحلة حيث تراهم يتنقلون من مكان إلى آخر ومنهم من يصرفون وقتهم بين قراءة القرآن والنوم والأكل وهو الشغل الشاغل عند الإبحار بالسفن وهو حال راكبيها ، وإذا ما شاء وصولهم إلى أحد المرافئ، كان ذلك في مرفأ ( مرباط ).
عند هذا المرفأ نزل من نزل وصعد من صعد من الركاب على ظهر السفينة حتى مغادرتها باتجاه ( المكلا ) في اليمن ، وهي بمثابة المحطة قبل الأخيرة ، وعندما بلغوها كان ذلك بعد مضي شهر كامل من الإبحار في عرض البحر منذ انطلاقتهم ، وذلك قبل التوجه إلى ميناء ( مسكد ) ( الاسم المستخدم قديما ) ل مسقط وهم من تفادوا عدة موانئ في طريقهم نظرا للأوضاع السائدة في ذلك الوقت.
عند وصولهم ( المكلا ) رست السفينة في مينائها حيث طرح النوخذة حبالا مع قطعة ذات شص كبير من الحديد في قاع ماء البحر حتى لا تتزحزح من مكانها ونزل مع البحارة كي يقوم كل منهم بزيارة أقاربه قبل أن يواصلوا رحلتهم نحو محطتهم الأخيرة ، عندها كان من بقى بها عدد من الركاب من أهل (عمان ) بعدما استكانوا في مخادعهم لما اعتراهم من تعب الرحلة حتى عودة طاقمها من بحارة ونوخذة ، وعند الليل كان الهواء خفيفا والموج غير عنيف والبحر لين حيث أمطرت السماء مطرا غزيرا واشتدت الرياح وتماوج الموج واشتد نفخ الهواء حيث هبت في منطقة الميناء عاصفة هوجاء ما لبث إن إضطرب البحر اضطرابا عنيفا مما أدى إلى اضطراب السفينة وإن لم يكن بذلك الفرط عند بدئه ، لكن وقوع ذلك فجأة بدهت الركاب بعد ما كانوا في سكينة وسكون إلى أن وقع ما لم يكن في الحسبان ، وعلى أثر ذلك انقطعت تلك الحبال التي أقاموها في قاع البحر مما أدى إلى أن تتزحزح السفينة حيث أخذت تنكفئ فتميل إلى الأمام مرة وإلى الخلف كرة وترتج طورا وتتمايل يمنة ويسرة من المكان الرابضة فيه.
في تلك اللحظة حركت الرياح الهوجاء السفينة مسافة بعيدة عن البر حيث بدأت تتقاذفها الامواج من كل حدب وصوب فأخذت ترنو بنفسها وسط تعالي صراخ الركاب حيث هالهم أمرهم من حركات الارتجاف والانخفاض والارتفاع من حال البحر حتى ضجت النفوس ودارت الرؤوس ، وبعد عدة ساعات من اشتداد هيجان البحر اصطدمت السفينة بأحجار صخرية بحرية نظرا لضحالة المياه في تلك المنطقة بعد ما قذفتها الرياح في تلك البقعة مما حدا بركابها أن يقذفوا ما لديهم من حموله في عرض البحر وعندما لم يسمن لهم ذلك لا سيما أن النجاة لا تكون متيسرة لمن فيها ، عندها ارتأى البعض من الركاب الباقين مغادرتها بالقفز منها في عرض البحر ، كانوا كمن فقدوا عقولهم في تلك اللحظة ، وذلك لإحساسهم بأنها سوف تنشطر في أي من الاحوال حيث قفز من قفز وبقى من بقى ، ذلك القفز لم ينج ولم يسمع منهم أحد ولم يتبين لهم أثر في ذلك حيث هلكوا جميعا ، كل ذلك وسط اسوداد ظلمة الليل الحالكة حيث لم يبق بها سوى ( 4 ) من الركاب، وبعد ساعة زمان حدث ما كان متوقعا حيث سرعان ما انشطرت وهم بداخلها إلى نصفين حيث ظلوا متشبثين بقطعة من خشب السفينة وهم يصارعون الأمواج نحو البقاء ومن ضمنهم شخصيتنا.
عندها بدأت الحالة مفعمة بالطمأنينة حيث خفت الحالة قليلا عما عليه وهدأت الحركة قبل أن يأتي إلى ما كان عليه من ويل ، كل ذلك وسط ظلام دامس ، وذلك بعد ما رأوا هول ما جرى لهم حيث قذفتهم الأمواج البحرية بحلق صخور جبلية فأخذوا يشيرون بعضهم لبعض نحو القفز من القطعة الخشبية والتي تشبثوا بها ، وذلك عندما بدأت الأمواج تراوح باتجاه تلك الصخور حيث قفز أولهم ونجا ثم قفز ثانيهم ولم يتمكن من الامساك بالصخرة حيث غرق أمام مرآى أعينهم ولم يتمكنوا من إنقاذه وعملوا ما وسعهم وسط عتمة الليل ، بعدها قفز ثالثهم ونجا وكذلك رابعهم ، كانت تلك الصخور نحو جبل ملاصق للبحر بعد ما قذفتهم الأمواج في هذا الاتجاه لا يعلمون أين هم وفي أي بقعة حيث ظلوا في مكانهم وسط برودة الجو فيما كانت ملابسهم رثة بعد مصارعتهم لتلك التيارات من الامواج البحرية.
وفي اليوم التالي لاح لهم الصباح بعد ما أشرقت الشمس وأطلت بضيائها حيث كانت أجسامهم ممددة في تلك الصخور الجبلية الملاصقة للجبل حيث سمع أحدهم يصيح بأعلى صوته ، وذلك بعد ما رمقهم أحد الرعاة أثناء رعيه لماشيته فوق أعلى الجبل حيث رأى أجساما ممددة قائلا لهم : يا جماعة الخير من أنتم :
ومن أين أتيتم : عندها أيقظ صوت الراعي مسامع أحدهم حيث تيقن البقية أنهم كتبت لهم النجاة ، وقد حفظهم الله من أي مكروه بعد ما أيقظ صوت الراعي بواعث الحياة الجديدة فيهم وهم من اعتبروا أنفسهم من الهالكين بعد هدوء تلك العاصفة الهوجاء حيث لم يغمض لهم جفن في تلك الليلة الحالكة إلى أن أصبحوا في هذا المكان النائي ، فيما عاد الصوت إلى مسامعهم مرة اخرى من قبل الراعي وعندما تيقن أنهم إنس وإنهم غرباء ومفقودون سرعان ما أنزل لهم حبالا كانت على أعناق بعض الماشية ، بعد ما ثبتها على صخرة حيث عليهم أن يمسكوا بها الواحد تلو الآخر ، فبادر أولهم في البداية وعندما تيقن من في الأسفل إن الاول قد بلغ أعلى الجبل أمسك بالحبل ثانيهم ومن ثم ثالثهم بعد ما شدوا الحبل بكل عزم وقوة ثم قام بسترهم بقطع من القماش حيث أخذهم إلى مكان إقامته فأكرموهم أحسن الإكرام وألحقوهم بأعمال حيث حكوا حكايتهم للراعي وأهل بلدته ، وبعد عدة شهور بعد ما تيسر بهم الحال ، أرسلوا مرسالا إلى أهلهم في ( عمان ) و ( زنجبار ) مفاده أنهم على قيد الحياة وأنهم عائدون على أول سفينة متجهة إلى أي من الوجهتين.
أما عند مغادرتهم ( المكلاء ) ، فكانوا كلهم حزن لمفارقة من كان سببا في نجاتهم وبقائهم على قيد الحياة ، وفرحة بلقاء أهلهم وذويهم بعد مفارقتهم لهم ، وهم من ينتظرون أحباءهم وأقاربهم بعد ما تجمعوا في ميناء ( ماليندي ) في زنجبار حيث يمكن رؤية علامات السرور على وجوه مستقبليهم وذلك بحسن القدوم وهي بادية على محياهم حيث كان في انتظارهم العديد بعد ما سمع بقصتهم. في الميناء اشتدت المزاحمة عند خروجهم من المركب الذي أقلهم حيث تطاولت الأعناق وأغرورقت العيون بدموع الفرح ، كان التعانق كمن لو كانوا لم يروا بعضهم بعضا منذ سنين،حيث فاضت الألسن بالحديث، وما يمكن أن يحمل المرء في داخله من مشاعر جياشة تجاه الآخر ، وذلك بعد ما اجتمعت القلوب، وبعد ما سرت النفوس لرؤية بعضها البعض وأبهجت القلوب بجميل بهجتها.
إن حياة هذه الشخصية هي نموذج من نماذج كثيرة من أبناء عمان الأوفياء ممن تعرضوا إلى مواقف عصيبة ومؤلمة أثناء رحلاتهم ، وذلك بعد ما لاقو مصاعب جمة من الأهوال في البحار أثناء ارتحالهم .
لقد أكد لي من هم على قيد الحياة أن هذه الشخصية تمتاز بسموها وبصفات جميلة في الصبر والشجاعة وهي غاية في الإجلال من قوة إرادة بني الإنسان ومصارعته تلك الأمواج العاتية بعد ما تحملوا المشاق ، كما أن هناك الكثير من المصائب التي أحدقت بالكثير منهم بالغرق أثناء تنقلهم ولم يأت ذكرهم في الكتب لا من قريب ولا من بعيد.
كم هو جميل أن يتم تسليط الضوء على هذه الشخصيات العمانية سواء من الرجال والنساء وتوثيقها والعمل على سرد هذه الحكايات والروايات والموروثات مع من تبقى منهم على قيد الحياة ، وذلك كأرشيف تتناقله الأجيال من بعد وهو يصب في خانة التاريخ حيث إن لم نقم بذلك ستنطوي صفحات ذكراها مع رحيلهم ومنها ما انطوت ، كما يمكننا أن نستلهم منها أفلاما تعرض للعامة لهؤلاء الأبطال حيث أن ما نراه الآن من مسلسلات وأفلام عالمية ما هو سوى قصص حقيقية دونت وكتبت بعدما تناقلتها الأجيال.

خالد بن سعيد العنقودي
[email protected]