آرثر سايمونس :
الماء يبكي وباحث عن السعادة ينسج أحلامه في غرفة صغيرة !

آرثر سايمونس (1865- 1945) شاعر وأديب إنجليزي نشر في 1901- 1902 مختارات من شعره في جزءين ضم الجزء الثاني قصيدته القصيرة الشهيرة (نول الأحلام). يعد كتابه عن (الحركة الرمزية في الأدب) كتابا مهما من حيث كونه مصدر تأثير رئيسيا على الشاعر الانجليزي (الأميركي الأصل) تي. اس. أليوت، رائد قصيدة النثر أو القصيدة الحرة ، الذي ما لبث أن امتد أثره، أي أليوت، لاحقا إلى قسم اللغة الانجليزية في جامعة بغداد فالعالم العربي، بعد نشر قصيدته النثرية الشهيرة Waste Land، أرض الخراب. في عام 1909 أصيب سايمونس باضطراب نفس - عصبي منعه من الكتابة مدة تربو على عشرين سنة. يقول سايمونس في قصيدته بكاء الماء (ترجمة هذا الكاتب):

الماء، صوت القلب
الليل كله ينتحب على الشط نحيب الحزين
وأنا مضطجع أسمع ولا أعي
صوت البحر المنتحب أو صوت قلبي
يا ماء ينعب طالبا السكون، أهو أنا، أهو أنا؟
الليل كله يبكي البحر لي.

أيها الماء القلق لن تجد السكون
حتى يغيب آخر قمر ويكف المد الأخير
وتشتعل نار النهاية من المغيب
حتى تأخذ القلب الحيرة ويأخذه الضجر
يبكي بلا نفع طول العمر
كالبحر الليل كله يبكي لي.

أما قصيدته نول الأحلام ، فقد عثرت عليها بعد أن عثرت على قصيدته (بكاء الماء) الآنفة في مقال عن المكابدات الروحية للرجل الأسود في أميركا كتبه وليم دو بوس ( توفى عام 1963)، أول أميركي أسود ينال الدكتوراه من جامعة هارفارد. فما لبثت "نول الأحلام" أن استأثرت باهتمامي ليس فقط من حيث انكفاء الإنسان الحساس أو المبدع عن العالم حيث " تقايض التيجان والدماء تراق" ولكن الانكفاء إلى عالم داخلي طلبا لسعادة مما يشي بمكابدة نفسية كشفت عن نفسها بمعاناة الرجل الميلانخوليا زهاء عقدين من حياته.

لقد قدم طبيب النفس الأميركي الشهير بيتر كرامر في كتابه الأخير
Against Depression ، ضد الاكتئاب، آخر الأدلة على أن لهذا الاضطراب أصلا بيولوجيا وآثارا بيولوجية يمكن إدراكها بالفحوص الطبية مثله مثل أي علة أخرى تصيب الإنسان ولذا ما من داع إلى إضفاء الرومانسية عليه أو على المعاناة. و في هذا السياق يقدم تأملات عميقة عن لوحات الفترة الزرقاء لبيكاسو وأعمالا فنية وأدبية أخرى ليستكشف لماذا تجذبنا المعاناة في هذه الأعمال؟

لقد قرأت هذا الكتاب أوائل هذا القرن. لكن قبل ذلك كنت قد قرأت كتاب man search for meaning (بحث الإنسان عن المعنى) لطبيب النفس النمساوي الراحل الدكتور فكتور فرانكل مؤسس مدرسة العلاج المعنائي logotherapy ، أو مدرسة فيينا الثالثة (1). في هذا الكتاب يسهب فرانكل في إضاءة موضوعه الرئيسي: ليس القصد النهائي للإنسان هو حيازة السعادة ولكن القصد النهائي للإنسان هو تحقيق معنى للحياة (ولو مع المعاناة) (2). والآن إليكم قصيدة نول الأحلام ( ترجمة هذا الكاتب) (3):

على نول أطرز العالم
والأحلام نسجي
وحيدة، صغيرة حجرتي.
سيد الأرض أنا والبحار
والكواكب إلي تجيء.

على النول أطرز حياتي ،
خيطا في إثر خيط أطرز حبي
والعالم بمجده وعاره يمر بي
تقايض التيجان والدماء تراق
وأنا أطرز أحلامي
هي عالمي الوحيد
والتطريز سعادتي

أفليس العالم إلا ما يتراءى لي ؟

إهداء

أهدي هذه الترجمة إلى مريم "امرأة أميركية" حية الضمير عملا بقوله صلى الله عليه وسلم" لا يشكر الله من لا يشكر الناس." التي عرفت معها السعادة لأول مرة في حياتي. وأول امرأة أعرفها بالجسد. تزوجتها يوما ما سرا ولم يعلم بذلك الطلاب العمانيون الذين كانوا معي في الجامعة لأنه خلال تلك الفترة أصدرت حكومة السلطنة قرارا بمنع الزواج من غير العمانيات تحت طائلة فقد الوظيفة الحكومية وإجراءات عقابية أخرى. فكنت أخشى ان تقطع بعثتي الدراسية وأفصل من عملي في التلفزيون فقد كنت أعيل أبوين شيخين كبيرين وإخوة وأخوات صغار وأحداث أسنان لا زالوا يدرسون ولم يعملوا بعد. بل أني لما بنيت بيتي الصغير في الوادي ( هو حقا صغير بمقاييس البيوت الحديثة في ظفار) العام الذي ابتعثت فيه الى الولايات المتحدة لدراسة الإعلام خولت والدي رحمه الله حق التصرف بإيجاره كما خولته حق قبض راتبي من مكتب الإعلام والتصرف فيه حيث كان صاحب الجلالة السلطان قابوس حفظه الله ورعاه قد وجه أمرا ساميا يقضي باحتفاظ كل موظف حكومي يبتعث للدراسة بوظيفته مع صرف راتبه جزاه الله عنا خيرا وأبقاه لنا ذخرا. كتبت إلي منذ أربع سنين أي مريم تخبرني ان الرجل الذي كان في حياتها 18 عاما سعيدة فارقها مؤخرا بعد إصابتها بحادث اليم في الظهر أثناء ممارسة رياضتها المفضلة الايروبك (الرياضة الهوائية) فصرت أبعث لها كل سنة بهدية مع بطاقة في عيد الشكر Thanksgiving (عيد أميركي يصنعون فيه وليمة في الضحى يشكرون الله قبلها على كل ما أنعم عليهم به من نعم مادية وغير مادية) وكل سنة هدية مع بطاقة في عيد الميلاد ففي صبيحة يوم كريسماس أعلنت لي عن حبها عندما كانت في طريقها إلى بيت أمها لحضور وليمة عيد الميلاد (العيد الذي يتبادل فيه الأميركيون الهدايا ويحيون ذكرى ولادة المسيح عليه الصلاة والسلام) فمرت علينا في منزل البروفسور جون حيث كنت مع عائلته مدعوا لتناول الوجبة فوقفت على الباب وأشارت إلي أن تعال فلما جئتها قالت افتح يدك فمددت يدي وراحتي مبسوطة فوضعت فيها قطعة من الفضة على هيئة قلب ورجعت إلى سيارتها تقود إلى بيت أمها التي كانت تعيش في بلدة قريبة مع زوجها.

هوامش :

(1) استنبط فرانكل العلاج المعنائي بعد مكابدته في معسكرات الاعتقال النازية حيث فقد زوجته، فرح حياته، في معسكر اعتقال مجاور للنساء. وله مجموعة كتب في هذا المجال تحرك الفكر منها Man search for ultimate meaning (بحث الإنسان عن المعنى النهائي). والمقصود بالمعنى النهائي الحقيقة التي ينتهي إليها كل شيء، أي المعنى الذي لا معنى بعده. وعندنا هو الحق تبارك وتعالى: الله. وتسمى مدرسة العلاج المعنائي بالمدرسة الثالثة إشارة إلى أنها جاءت بعد المدرستين اللتين سبقتاها: مدرسة فرويد للتحليل النفسي فمدرسة يونج.
(2) المعاناة ليست لازمة عند مدرسة العلاج المعنائي. ولكن إذا أصابت الإنسان المعاناة فان العلاج المعنائي يتدخل حتى يدركها الإنسان في سياق ذي معنى فيتغير تفكيره فيها وما يتبع ذلك من آثار نفسية وذهنية وسلوكية. عالج المسلمون مشكل المعاناة في إطار: ابتلاء الإيمان، القدر، الرضاء بالقضاء، ومنافع الصبر الدنيوية والأخروية. وبز أهل السلوك المتقدمون غيرهم من المسلمين في الكتابة عن هذا المشكل بل وفاقونا نحن مسلمي العصر الحديث الذين لم نأت بأي جديد.
(3) أعرضت عن ترجمة آخر بيتين لان فيهما وصفا يصادم اعتقادي كمسلم في كمال الله وغناه عن كل خلقه.

محمد عبدالله العليان
إعلامي عماني وعضو الرابطة الدولية للكتاب العلميين ISWA