تمثل التجربة الفنية الأخيرة التي يُقدمها التشكيلي عدنان الرئيسي في فضائه الفني بُعداً تراكمياً يضاف إلى سلسلة تجاربه السابقة لما تحمله من تقنية في الأداء وجمال في التنفيذ والإخراج ، حيث تعتمد في حركتها على الحرف العربي الذي يُشكل العنصر الجوهري من عناصر الفن الزخرفي الإسلامي ، ومعلوم أن الفن الإسلامي يمتاز بذخيرة كاملة من التصاميم ونظام هندسي متميز مرتبط بفكرة وعقيدة في مرحلة باكرة من حقبة الهجرة النبوية الشريفة وما تلاها .
فالفنان المسلم لم يَسعَ وراء ما هو جديد وغير مألوف بالطريقة التي اتبعها فنانو عصر النهضة ولكنه بدلاً من ذلك بقي مرتبطاً بالنموذج الذي أقر الزمان والعرف جدارته ، ساعياً في الوقت ذاته إلى تجديد قدرته على إثارة الإعجاب ، لإعادة الشباب إلى شخصيته، بواسطة التغييرات الماهرة في التفاصيل ، وهذا كما يبدو لي كان واحداً من المعطيات التي جذبت بحب هذا الفنان ليقدم لنا الحرف العربي في شكله الزخرفي الجميل الزاخر بحركته الإيقاعية في مختلف أشكاله وطرق تركيبه.
ونقدم ضمن هذه القراءة واحداً من عشرات النماذج التي أظهرها لنا الفنان من سلسلة أعماله الفنية التي تعتمد في أصلها على الخط العربي كلون أصيل من ألوان الجمال في الفن ، فالعمل الماثل أمامنا يقدم لنا مضموناً روحياً، وأعني بها تلك العلاقة التي تربط بين الزخارف التجريدية الإسلامية وبين المشاعر الروحية التي استقرت في نفس المسلم إزاء خالق الكون والكون نفسه . بداية يجوز لنا أن نُسلم بأنها مجرد زخارف عابثة، أي مجرد تنسيق خطي ولوني للأشكال المجردة على المساحة العارية ، لننطلق بعدها إلى ما يوجب أن يكون لها مضمون روحي ، وفي هذا يقول المؤرخ مارسيل برييون " إن الفنان عندما يشغل نفسه بإكساب الشكل طابعاً روحياً، واستشعار ما فوق الحسي ، فإنه يفر دائماً إلى الأسلوب التجريدي ووسائله التعبيرية ، ما دام هذا الشيء الذي فوق الحسي صالحاً للتعبير عنه من خلال أي شكل من الأشكال ، بخاصة الشكل التجريدي "
ومن هذا المنطلق نمعن النظر في العمل الماثل أمامنا لنستلهم عنصر الروحانية فيما يبثه من مفردات تتمثل في الخط العربي الذي كان له الشرف العظيم في تسجيل كلام رب العالمين وعلمه المكين الذي نزل إلينا بعضه في كتابه المبين المنزل على رسوله الكريم ، ولنأخذ مثلاً الخطوط المجتمعة ذات الإيقاع المنسجم المنتظم في أعلى العمل ونقارنها بحجم ما أسفلها ، فقد تحمل هذه الرؤية لدينا دلالة معنوية نستشعر معها عظيم خزائن الله التي لا انتهاء لها ولا حد ولا حصر ، والشيء القليل الذي نزل إلينا منها ، فهي إذن رحلة نزول الخير الذي هطل من السماء وتغشى الأرض بالنور والهدى فيما احتواه من آيات بينات كانت نبراساً أضاء الدجى ودستوراً حقق العدالة وأنبأ عن غيبيات لم يكن البشر ليعلمها لولا ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ، وبين هذا وذاك نجد النقاط النورانية التي تملأ أركان العمل وكأنها أرواح المؤمنين الذين تشربوا من ذلك الخير فظلت أرواحهم في حركة صعود ونزول لا تنكف بين مصدر ذلك النور ومهبطه ، ويشكل لون الخلفية حساً وبعداً عميقاً يراوح بين الوهج والعتمة يشعرنا هو الآخر بعالم الغيبيات الذي عنه حُجبت الأبصار، ولكن بعضاً من أرواح المؤمنين تخترقه بقدر ما تملكه من إيمان وقرب من الله.
ختاماَ قد يبدو أننا بهذا التحليل قد أحلنا الأشكال المجردة في العمل إلى لغة مفهومة، الأمر الذي يتنافي وطبيعة التجريد ذاتها لدى البعض الذي يظن أنها عكس ذلك ، ونقول لهم لا شك أن التجريد لغة ولكنها لغة روحية لا جسم فيها ، تغذي الفكر وتنعش النفس بما تبثه من مشاعر وأحاسيس ، وهي تخاطب أرواحنا بطريقة تلقائية مباشرة . أما اللغة المستخدمة في التحليل بألفاظها وكلماتها فهي لغتنا الخاصة ، التي نحاول بها أن نترجم ـ قدر المستطاع ـ ما تثيره فينا تلك الأشكال المجردة من مشاعر روحية.

عبدالكريم الميمني
[email protected]