معظم شعراء المهجر انطلقوا من ثقافة دينية وفقهية ولغوية لذلك يكثر في أشعارهم التصوف والحديث عن الزهد
(مقامات أبي الحارث) لمحمد بن علي البرواني أبرز مثال على فن المقامة في المهجر الأفريقي

مذكرات أميرة عربية ومغامر عماني في أدغال أفريقيا.. أنموذجان على السيرة الذاتية في المهجر
جوخة بنت علي بن صالح الشماخية محاضر أول لغة عربية بالكلية التقنية بعبري

الشعر يكاد يكون هو السمة البارزة التي طغت على الأدب في المهجر الأفريقي، وهذا شأن الشعر في كل زمان ومكان؛ نظرا لقدرته على التأثير وسلاسة وصوله إلى النفس، وحين نذكر الشعر في المهجر الأفريقي مباشرة تحملنا الذاكرة إلى أبرز وأشهر من مثّل الشعر خير تمثيل وهو ناصر بن سالم بن عديم الرواحي المشهور بأبي مسلم البهلاني، الذي ولد في عمان، ثم انتقل إلى زنجبار وهو في الثانية والعشرين من عمره، حيث كان أبوه يعمل قاضيا في عهد السيد برغش ، وقضى بقية عمره هناك، ودفن وتوفي فيها. ولأبي مسلم ديوان شعر مطبوع ولا يخلو كتاب يتناول أدب ذلك الزمان إلا ونجد اسمه في الصدارة. ومن شعراء المهجر الأفريقي كذلك: أبو وسيم الأزكوي، وأبو الحارث البرواني، وهلال بن سعيد بن عُرابة، وأحمد بن حمدون الحارثي، وعبدالرحمن الريامي، وخميس بن سليّم الأزكوي، والشيخ أحمد بن راشد الغيثي، والسيد الهادي أحمد بن هدّار.
يغلب على الشعر في المهجر الأفريقي اتجاهان:
الأول هو الاتجاه الديني: فمعظم الشعراء انطلقوا من ثقافة دينية وفقهية ولغوية، لذلك يكثر في أشعارهم التصوف والحديث عن الزهد، والتأمل في ذات الله، والدعوة إلى العدل وغير ذلك، فيقول أبو مسلم البهلاني في تائيته:
هو الله بسم الله تسبيح فطرتي هو اللهُ إخلاص وفي الله نزعتي
هو الله بسم الله ذاتي تجردت وهامتْ بمجلى النور عين حقيقتي
هو اللهُ بسم اللهِ ضاءت فأشرقتْ بأنوار نور الله نفس هديتي
أما الاتجاه الثاني هو الاتجاه الوطني الاستنهاضي: وذلك بسبب الاستعمار الغربي الذي تستّر وراء المعاهدات التجارية، وكان هذا الوجود الغربي لا يمكن أن يرضى به مشايخ الإباضية، وكان ذلك باعثا للتخلص من سلطة المستعمر، فهم نبذوا الاستعمار ليس في عمان وزنجبار فقط، وإنما على مستوى الخليج العربي والأمة العربية جميعا. يقول أبو مسلم مصورا مدى تحكّم الاستعمار:
قد استباحوا حرماتِ ديِنكم ومنعوا الأرضَ الحياةَ والحيا
تحكّموا في ملكِكم ورزقِكم وكبسوا البئرَ وقطّعوا الرشا
منّوا عليكم بغذاءِ طفلِكم وحسوةِ الماءِ ونفحة ِالصبا
وازعجوكم عن ظلالِ ريفِكم وليتكم لن تُزْعجوا عن الفلا
أما بالنسبة لأغراض الشعر فتمثلت في الآتي:
- أغراض الشعر التقليدية من مدح وفخر وغزل ورثاء، والوصف، مع إدخال بعض التجديد أحيانا في بعض الأغراض مما تفرضه معطيات الحياة الجديدة في شرق أفريقيا، فمثلا في الوصف كان لطيب هواء شرق أفريقيا وجمال رياضها وبساتينها جعلهم يدخلونها في أشعارهم، من مثل قول أبي وسيم الأزكوي يصف رياض زنجبار:
فيها رياضٌ وجناتٌ خلالهما تجري العيون بماء غير ذي أسِنِ
كأنما الماءُ من خمرٍ ومن عسل لازال في سهـرٍ لم يدرِ بالوطن
تخاله في أواني التبر مطّردا مثلُ اللجينِ صفا للعين والأذنِ
وصاغة الطير تشدو فوقها جملا من أضربِ الجوهرين السجعِ واللحن
ومن أغراض الشعر التي استجدّتْ في شعر شعراء المهجر الأفريقي الشوق والحنين إلى الوطن فقد غادر كثير من شعراء عمان إلى الوطن الثاني زنجبارواستقروا هناك، فكانت حياة المهجر باعثا على وجود هذا الشوق والحنين، كما كان للحياة الطيبة في زنجبار أثر واضح في ترقيق مشاعرهم، ومن الشعراء الذين كتبوا في هذا اللون أبو وسيم الزكوي، وأبو الحارث البرواني، وأبو مسلم البهلاني، الذي كانت مقدمات قصائده في رقتِها ومبلغِ تصويرها للحنين إلى الوطن عاملا على بعث الشعور الوطني، فنستمع إليه يقول:
نزحتُ وفي نفسي شجونٌ نوازعُ إليهم ونازعتُ الأسى وهو حائمُ
فكم جعلتْ نفسي تُطالبُ صبرَها بنصرٍ ويأبى الصبرُ إلاّ التنادمُ
خليليّ ما تَذْكارِ ليلى لُبانتي أقامتْ بنجدٍ أم حوتْها التهائمُ
ولكن شجاني معهدٌ بان أهلُهُ فبان الهدى في إثْرِهمْ والمكارمُ
لعمري لنعمَ المعهدِ المُهْتدى به وقد ملأ الدنيا ظلامٌ وظالمُ
فن المقامة
المقامة إحدى فنون الأدب العربي النثرية المطعمة أحياناً بالشعر، وهي أقرب الى أن تكون قصة قصيرة مسجوعة، وحكاية خيالية أدبية بليغة، ينقلها راوٍ من صنع خيال الكاتب يتكرر في جميع المقامات، يصوره وكأنه قد عاش أحداثها، ولها بطل إنساني مشّرد شحاذ ظريف ذو أسلوب بارع وروح خفيفة، يتقمص في كل مرة شخصية معينة، يضحك الناس أو يبكيهم أو يبهرهم ليخدعهم وينال من أموالهم.
والمقامة بوصفها فنا أدبيا يمتد جذورها إلى القرن الرابع الهجري، حيث كتب ابن دُريد (أبو بكر محمد بن الحسن) أولى مقامته التي وردت في شكل رسائل أو أحاديث. ونضج هذا الفن وتشكّل على يد كتابه وأشهرهم بديع الزمان الهمذاني (أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحي بن سعيد)، وابن شرف القيرواني (أبو عبد الله بن أبى سعيد محمد)، والحريري (أبو محمد القاسم بن على بن محمد الحريري) المتوفى في عام 516 للهجرة.
وأبرز مثال على فن المقامة في المهجر الأفريقي (مقامات أبي الحارث) لمحمد بن علي بن خميس البرواني، وهو من أصول عمانية ولد في جزيرة (زنجبار) وتوفى سنة 1953 م.
لم يكن البرواني خريجًا لمدرسة أو جامعة بعينها، ولكن انحداره من والدين شغوفين بالعلم والثقافة قد نما فيه حس الإطلاع والقراءة، لاسيما وأن البرواني قد نشأ في أسرة ثرية، وبيت فيه مكتبة كبيرة احتوت على أمهات الكتب في مختلف المجالات: الأدب، والفقه، والتاريخ . ومن الجدير بالذكر أن ثقافة البرواني لم تكن ثقافة عربية فقط، بل إنجليزية أيضًا، إذ كان يجيد اللغتين على حد سواء.
وقد نهج البرواني نهج سابقيه في كتابة المقامات، من حيث النسق العام والبنية الفنية للمقامات. فللمقامات بنية فنية عامة، تكاد تكون ثابتة. تتمثل هذه البنية في الإطلالة التمهيدية التي تتضمن إسناد فعل القول أو حكي أحداث المقامة إلى راوٍ بعينه، وللمقامة دائمًا شخصيتان أساسيتان هما: شخصية الراوي الذي يقوم برواية أحداث المقامة ومغامرات بطلها، وشخصية البطل؛ الذي هو في الأغلب الأعم شخص مسن أو شيخ جرب دروب الحياة، وعلى دراية بمعاكسات الزمان والحظ، ومن ثَمْ يقوم في المقامة بدور المفيد والمعلم للآخر. أما الأحداث والحبكة والزمان والمكان، فليس لهم دور هام في النص المقامي في ظل الاهتمام المبالغ بالألفاظ والأساليب البلاغية. والهدف من مقامات البرواني هو رسم صورة للكمال الإنساني جوهرًا ومظهرًا، من خلال الدعوة بالتمسك بتعاليم الدين، وقيم التهذيب التي يدعو إليها الإسلام.
- فن كتابة السيرة
السيرة اصطلاحًا تعني قصة الحياة وتاريخها، وكتبها تسمّى كتب السير، يُقال قرأت سيرة فلان: أي تاريخ حياته. والسيرة النبوية تعني مجموع ما ورد لنا من وقائع حياة رسول الإسلام وصفاته الخُلقية والخَلقية، مضافا إليها غزواته وسراياه . وهي نوعان: سيرة ذاتية يكتب فيها الأديب عن نفسه، وسيرة غيرية يكتب فيها الأديب عن غيره.
ومن أمثلة السيرة الذاتية في المهجر الأفريقي سيرة السيدة سالمة بنت الإمام سعيد بن سلطان البوسعيدي، في كتابها "مذكرات أميرة عربية" (1844ـ 1924م)؛ وهذه السيرة التي كتبت في الأصل بالألمانية في ستينيات القرن الماضي، لاقت رواجًا، حيث ترجمت إلى الإنجليزية مرتين مرة في سنة 1888م، وأخرى في عام 1905م، كما ترجمت إلى الفرنسية في سنة 1889م. ووزارة التراث والثقافة بادرت بترجمة السيرة إلى العربية في أوائل الثمانيات، اعتمادًا على الترجمة الإنجليزية للكتاب، من ثم يعود إليها الفضل الأول في تعريف القارئ العربي بهذه السيرة، وهو ما ينفي الشائعة المروجة بأن السلطنة كانت ضد ترجمة سيرة السيدة سالمة بنت سعيد بن سلطان إلى العربية.
بيد أن قيام الترجمة الإنجليزية للكتاب بدمج بعض فصوله، ونقل مقاطع كثيرة منه ووضعها في سياق آخر غير السياق الأصلي، أفقد الكتاب في نسخته الإنجليزية والعربية قيمته الوثائقية، هذا فضلاً عمّا قام به المترجم العربي عبد المجيد حسيب القيسي من تعديلات في النص تارة بالحذف، وأخرى بالإضافة والإسهاب في الوصف معتمدًا على معرفته الشخصية بالموضوع، أكثر من اعتماده على النص.
وعليه فإننا نستطيع القول: إن الترجمة العربية الأكثر رصانة هي ما قامت به الدكتورة سالمة صالح العراقية، حيث ترجمت المذكرات إلى العربية مباشرة من النص الألماني الأصلي، وطبع الكتاب في طبعتين من قبل منشورات دار الجمل بألمانيا، الأولى في 2002م، والثانية في 2006م.
وترد د. آسية البوعلي أن قيمة هذا الكتاب لا تكمن فقط في كونه يُسْطُر مذكرات أميرة عُمانية عربية؛ هي الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان، ابنة إمام مسقط وسلطان زنجبار في القرن التاسع عشر الميلادي، حيث تروي الأميرة سيرة حياتها في مسقط رأسها زنجبار، والأحداث التي عصفت بأسرتها وبلدها بعد وفاة والدها، من صراع إخوانها على العرش، وتدخل الإنجليز في شؤون البلاد فكل هذا له أهميته التاريخية، لكن الأهمية الأكثر عمقًا تكمن في أن هذه السيرة تعد من أكثر التجارب النسائية العربية أهمية، وريادة في مواجهة الغرب الأوروبي، كما تكمن في اشتمال المذكرات على تحولات جذرية لامرأة عربية مسلمة غيرت اسمها ودينها بزواجها من أوروبي، حيث عاشت تجارب متنوعة عبر حياة استمرت ثمانين عاما، وواجهت شتى الصعاب من أجل أن تعيش حياة جديدة تختلف شكلاً ومضمونا عمّا عهدته في وطنها الأصلي من حياة مترفة لأميرات عربيات في القصور، وسط العديد من الخدم والحشم. أضف إلى ذلك أن المذكرات تعكس قمة الشعور بالغربة وتمزق الهوية.
والكتاب الثاني الذي وصلنا في السيرة الذاتية هو "مغامر عماني في أدغال أفريقيا: حياة حمد بن محمد بن جمعة المرجبي المعروف بتيبو تيب" وقد ترجمه إلى العربية الدكتور: محمد المحروقي، صدرت طبعته الأولى في فبراير 2005م عن كتاب نزوى، مسقط، مؤسسة عُمان للصحافة والأنباء والنشر والإعلان، أما الطبعة الثانية وهي للمترجم ذاته، فقد صدرت عن منشورات الجمل، بألمانيا، في 2006م، وبدعم من وزارة التراث والثقافة بمسقط، وبتوجيه مباشر من صاحب السمو السيد هيثم بن طارق آل سعيد، وزير التراث والثقافة.
وتكمن أهمية هذه السيرة - كما يذكر د. محمد المحروقي في ترجمته - في أنها تقدم "شخصية طموحة حفرت طريقها بأظافرها وبدأت من مرحلة الصفر وعاشت حياة مليئة بالأحداث ومليئة بتحدي المجهول. هي أسطورة لإنسان بسيط من أسرة ضعيفة غاب معيلها وتكالبت عليها الظروف. غير أن تيبو تيب يتحدى كل ذلك وينجح بشكل كبير لدرجة تجعله قادرا على التعامل وأحيانا التفاوض مع حكومات عربية وغربية التي تقدر حجم النفوذ الذي يتمتع به هذا الرجل داخل البر الأفريقي".
أما على مستوى السيرة الغيرية فيأتينا كتاب "الرائدة الأستاذة الدكتورة فاطمة بنت سالم بن سيف المعمري (1911م-2002م): دراسة تاريخية وثائقية أكاديمية" من تأليف د. أسية البوعلى، والكتاب طُبِع بمسقط من ِقبَل وزارة التراث والثقافة في فبراير 2008م . يعرض لسيرة أ.د فاطمة المعمري التي هي من مواليد زنجبار، حصلت على الدكتوراه من جامعة لندن في اللغة اللاتينية وآدابها عام 1955م، وهي بذلك تعد ثاني امرأة تحصل على هذه الشهادة على مستوى الشرق الأوسط، وأول مَنْ حصل على هذه الشهادة في دول الخليج العربية على مستوى النساء والرجال قاطبة.
إن فاطمة سالم المرأة العربية العُمانية لا تعد من الرائدات على صعيد أستاذية الجامعة؛ (جامعتيْ: القاهرة والإسكندرية) فحسب، بل على صعيد اللغة اللاتينية وآدابها لكونها أول امرأة شرقية تقوم بتدريس هذه اللغة. فسيرتها في هذا الكتاب، الموثقة بالمستندات والوثائق والصور، تؤكد ما وصلت إليه المرأة من مكانة علمية واجتماعية بدليل مختلف التكريم والتقدير لفاطمة سالم على صعيد الدول (مصر، سوريا، عُمان). و تنقسم هذه السيرة إلى ثلاثة فصول: الأول يعرض لحياة الراحلة فاطمة سالم منذ المولد 1911م حتى الوفاة 2002م، والثاني يرصد شهادات من عرفوا فاطمة سالم عن قرب من أفراد العائلة المالكة وأقربائها وزملائها من أساتذة جامعتيْ القاهرة والإسكندرية، وطلابها وجيرانها، والثالث يعرض قراءات عن أبحاث فاطمة سالم الأكاديمية في الأدب واللغة اللاتينية.
والقارئ لهذه السيرة سيجد زنجبار حاضرة في كل ثناياها بمعنى ؛ أن ميلاد فاطمة سالم في زنجبار ذاتِها وانحدارها من أسرة ميسورة الحال تُقدّرالعلم والثقافة، وتهتم بتعليم المرأة، هو ما أهّل فاطمة سالم أن تصل لهذه المكانة الاستثنائية، لاسيما وأن طفولتها وشبابها واكبا زمنا لا يعُطي أهمية لتعليم المرأة، فما بال والأمر يتعلق بتعليمها إلى درجة حصولها على الدكتوراه ووصولها إلى مستوى الأستاذية.