[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” من فرنسا انطلقت الحملات الصليبية وفرنسا كانت صاحبة أول عمل استعماري حين قام نابليون بحملته على مصر عام 1798 ثم احتلت الجزائر عام 1830، والتصق تاريخها الحديث أيضا بالعالم العربي حين شاركت في العدوان الثلاثي على مصر، ثم ان فرنسا هي التي جهزت إسرائيل بالمفاعل النووي وبالسلاح النووي،...”
ــــــــــــــــــــــــ
تعود هذه الأيام في فرنسا أشباح العنصرية المقيتة ضد العرب والمسلمين بعد أن حقق الحزب اليميني المتطرف (حزب الجبهة الوطنية) فوزا كبيرا في الإنتخابات البلدية الأسبوع الماضي تفوق 7% من المدن والقرى وهذا الحزب الداعي إلى طرد المهاجرين ترأسه مارين لوبان ابنة الزعيم العنصري حون ماري لوبان مؤسس الحزب وهو الذي اشتغل ضابطا أثناء الحرب التحريرية الجزائرية واعترف بأنه قام بالتنكيل بالمجاهين وبرر التعذيب. كما عادت للذاكرة الجمعية الفرنسية لمشاهد التمرد العنيف الذي هز ضواحي المدن الفرنسية في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي بعد أن تفوه بعبارات مذلة للعرب المهاجرين وأبنائهم وهذه الأحداث تصدرت في وقت وقوعها وسائل الاعلام وجداول أعمال الحكومات في الاتحاد الأوروبي، لأن ظاهرة الانحراف لدى المراهقين أحفاد المهاجرين العرب والأفارقة تتجاوز فرنسا لتشمل بأشكال ودرجات مختلفة كل البلدان الأوروبية ولتطرح أسئلة محورية هامة على الضمائر.
فالمجتمعات الأوروبية التي نعيش فيها وولد ونشأ فيها أولادنا هي مجتمعات ديمقراطية وحية لا تقابل فيها السلطات مظاهر العنف والانحراف بالعصا الأمنية المطلقة ولا بالاجراءات القمعية كما تأمل الحركات العنصرية، ولكن من حسن حظنا بالحوار والتشاور والتناصح وتشكيل لجان التفكير والتحليل في البلديات والجامعات ومراكز البحوث الاجتماعية. والحقيقة التي يجب ألا نخفيها أو نتستر عليها هي أن أكثرية المورطين في عمليات الاعتداء بالحرق والاتلاف للممتلكات العامة هم مع الأسف من أبناء الجيل الثالث من المهاجرين من أصول مغاربية وافريقية، ومن غير الراشدين وفي بعض الأحيان من المراهقين الذين تتراوح أعمارهم من 15 الى 20 عاما. ولا بد من الاشارة الى تفاقم أزمة الأمن في المجتمعات الأوروبية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 و التي تشعبت تداعياتها المتلاحقة في الحرب الغربية على العراق والاعتداءات الوحشية الاسرائيلية اليومية على شعب فلسطين واغتيال مناضلين بحجم الشيخ أحمد ياسين والدكتور الرنتيسي وقتل الشهيد الطفل محمد جمال الدرة أمام الكاميرات وتدمير المدن العراقية والفلسطينية ومشاهد التعذيب في أبو غريب وفي جوانتانامو، ثم الصور الفاجعة للحرب الاسرائيلية على لبنان ثم على قطاع غزة وحرب حلف الناتو على أفغانستان.
كل هذه المشاهد التي ملأت مواقع الاتصال الاجتماعية أصبحت بفضل الفضائيات والشبكة تدخل البيوت وتكتسح الضمائر وتهز الوجدان، وتفعل فعلها في طرح أسئلة الهوية والظلم والعلاقات بين الأمم على عقول الشباب المسلم في المدن الأوروبية، وهو يشعر بأنه مضطهد محشور في محتشدات المساكن الشعبية التي تشبه المداجن و معرض للتمييز العنصري كلما طالب بحقه في العمل وكسب الرزق. أضف الى هذه العوامل ما يقع في المجتمعات الأوروبية من تخبط في التعاطي مع قضايا الادماج الثقافي والاجتماعي لهذا الشباب في المجتمعات الأوروبية التي تحمل منظومة قيم مسيحية حتى لو رفعت لواء العلمانية التي تبقى بلا محتوى فعلي كلما عطلها المتشددون اليمينيون النافذون في أغلب شرائح المجتمع الأوروبي، والذين يتنظمون في أحزاب شرعية ومعترف بها تفوز في مختلف الانتخابات بنسب متفاوتة لكنها تدور حول معدل 15 %.
و في فرنسا، رغم أولوية الحوار الوطني الدائر فيها حول الهجرة والعنف، فان نسبة المهاجرين فيها تبقى أقل من ألمانيا وأسبانيا وايطاليا وهولندة، لكن طبيعة العلاقات الفرنسية العربية والتي صنعها التاريخ المشترك تعطي لفرنسا بالذات خصوصية فريدة وتحملها في نظر الأوروبيين مسؤولية الريادة. من فرنسا انطلقت الحملات الصليبية وفرنسا كانت صاحبة أول عمل استعماري حين قام نابليون بحملته على مصر عام 1798 ثم احتلت الجزائر عام 1830، والتصق تاريخها الحديث أيضا بالعالم العربي حين شاركت في العدوان الثلاثي على مصر، ثم ان فرنسا هي التي جهزت اسرائيل بالمفاعل النووي وبالسلاح النووي، وارتبطت بقضايا الشرق الأوسط ارتباطا وثيقا وهي التي تحملت تبعات الامبراطورية الفرنسية حين استقلت الشعوب العربية والافريقية من الاستعمار فلم تفلح الدول المستقلة في تحقيق التنمية و لا الدولة العادلة ذات المؤسسات مما جعل الهجرة الى فرنسا وأوروبا عموما حلم شرائح واسعة من الشباب في المغرب العربي وافريقيا. ولا يشك المحللون النزهاء اليوم في أن الحكومات المتعاقبة في باريس من يمين ويسار لم تفلح في توفير أسباب الحياة الكريمة لمهاجريها ولا حتى لأولئك الذين قاتلوا ضمن جيوشها في الحرب العالمية الأخيرة وحرروها من الاحتلال النازي. فنشأت الضواحي المحتشدات تأوي ملايين المهمشين والمبعدين عن الرفاه وعن الشغل، ولكن الجيل الثالث المتشكل من أحفاد المهاجرين الأوائل أصبحوا يتفاعلون مع هوياتهم ويشاهدون الفضائيات العربية ويلتجؤون الى خصوصيات ثقافية قادت بعضا منهم الى التوجه الى سوريا اليوم كما توجهوا بالأمس للعراق وفلسطين للجهاد، بعد أن انغلقت في وجوههم أبواب الاندماج الايجابي في المجتمعات الأوروبية. وأقصى بل وأقسى مؤشرات هذه القطيعة تجسدت في أعمال ارهابية بمدريد ولندن نفذها شباب مسلم مغرر بهم اعتقدوا عن جهل بأن ضرب المجتمعات الامنة التي يعيشون في كنفها هو من باب الجهاد ضد المعتدين على شعب العراق وفلسطين وأفغانستان، في حين أن المدنيين الغربيين من أكثر الشعوب تأييدا للحق ونزل الملايين منهم في مظاهرات تندد بالحروب الجائرة. وتبقى ظاهرة العنف المجاني والأعمى في ضواحي المدن الفرنسية هذه الأيام ظاهرة منحصرة في أقلية من المنحرفين بالمقارنة مع النجاحات المهنية والرياضية والفنية والثقافية التي حققها عدد متزايد من شباب الجيل الثالث من المغاربيين والأفارقة والذين منهم نجوم معروفون ومحترمون مثل اللاعبين زين الدين زيدان وبن زمعة والممثل جمال دبوز و الكتاب المشاهير أمثال الطاهر بن جلون ويسمين خضراء وأمين معلوف.
ولكن الذي يؤلم هو التوظيف السياسي لمظاهر العنف حيث يستغل العنصريون اليمينيون وأنصار التطرف الصهيوني مثل هذه الممارسات لينفذوا سياسات تهدف الى اقصاء العرب والمسلمين من دوائر التأثير والقرار في أوروبا بينما العرب والمسلمون يشكلون جزءا من هوية أوروبا و مستقبلها.