[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” المنصب أمانة وشعور بالمسئولية، وعمل يقوم على الإخلاص والتفاني والجد وخدمة الوطن ومراعاة مصالح الناس وإعلاء المصالح العامة للمجتمع، وتتطلب من المسئول أن يفتح بابه مشرعا للحوار والاستماع إلى الملاحظات والأفكار، وأن يقدر كل الآراء وإن كانت ناقدة لسياسته ولأدائه حرصا على التطوير والتحسين وتجويد العمل والارتقاء بالأداء، وحرصا على قيم الشورى..”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خامسا: الاستثناءات والامتيازات والمباهاة تربك العلاقات بين شرائح المجتمع.
في المستشفيات وفي المطارات وفي عدد من المؤسسات الحكومية والخاصة تخصص أجنحة وقاعات ودرجات خدمية متميزة وفاصلة بين فئة وأخرى مخصصة للأغنياء وكبار المسئولين، الذين تتولى مؤسسات وموظفون ودوائر تسهيل مهماتهم والدفع عنهم للحصول على تلك الخدمات المتميزة. فالمال لا يغلق أمام وجهه باب ولا يصمد أمام بريقه إنسان إلا من رحم ربي، يسلب الألباب ويستميل النفوس ويشتري الذمم ويغير العلاقات والصداقات، وهو باب رئيسي من أبواب الفساد .. وفي الكثير من مؤسساتنا الحكومية من هيئات أو قطاعات أو أجهزة أو مجالس أو شركات حكومية عمد بعض المسئولين مستغلين ظروفا وأوضاعا معينة إلى إصدار لوائح إدارية تنظيمية تحمل امتيازات واسعة، وإنشاء أندية ترفيهية أو صحية فخمة لموظفيها والمنتسبين إليها يتناثر بعضها على شاطئ العذيبة، فيما تتوزع أخرى في أكثر من مكان. وينسحب الحال كذلك على صناديق التقاعد التي تختلف امتيازاتها وحقوق المنتسبين إلى مظلتها، ما أدى إلى مشاكل عديدة ستبقى تعاني منها موازنات الحكومة المتتابعة خاصة مع الوضع الاقتصادي الضعيف، وتعد موظفي الجهاز الإداري للدولة للمزيد من المطالبات والاحتجاجات... يقضي عدد من كبار المسئولين والأثرياء أشهر الصيف الحارة في منتجعات أوروبا وآسيا يبحث عنهم المحتاج والفقير والمستثمر الأجنبي ومندوب المؤسسة أو المشروع أو العمل الخيري، راجين المساهمة في مشروع ما أو في الحصول على بضعة ريالات أو وظيفة أو قضاء خدمة أو مصلحة واعتماد المعاملة أو حتى أداء واجبات الزيارة من قبل نفر لم يروا وجوههم منذ زمن، فتصفعهم الأقفال المستعصية والحراس الغلاظ والمشرفون على أعمالهم وممتلكاتهم ومكاتبهم الذين أكسبوهم الكثير من ثقافتهم، فلا يجدون منهم إلا الابتسامات المبهمة والوعود المتتابعة والإجابات الغامضة التي تزيد الزائر والمحتاج لبسا وغموضا، وتغلق أمام حاجته ألف باب.. فيما كان أفراد المجتمع يجدون بغيتهم ويحصلون على حاجاتهم ويطرحون مبادراتهم ويعبرون عن مشاعرهم في السبلة العمانية المفتوحة طوال اليوم أمام الوجهاء والمشايخ وأصحاب الخبرة، فيخرجون برأي سديد ونصيحة تفيدهم وخطاب إلى مسئول يشرح طلبهم ومساعدة مالية تفك ضيقتهم، ومبادرة تصلح الأحوال... ومن جهة أخرى يخضع الموظفون ومن في حكمهم من حيث قيمة الدخل والقدرة المادية الضعيفة لضغوطات زوجاتهم وأبنائهم، وينقادون لعواطفهم تيمنا بمسلك الأغنياء واقتداء بمنهجهم مع إغفال الفوارق الكبيرة التي ستجر عليهم المشاكل والأزمات، وجريا وراء موضة جديدة وعادة مبتدعة، وما أكثر الموضات والبدع التي تسلب المجتمع أعز ما يملك من قيم وعادات ومعانٍ جميلة، فيسرعون للاستدانة من البنوك والبحث عن مصادر مختلفة للحصول على المال الكافي لقضاء أسبوع أو أسبوعين في بعض دول شرق آسيا أو التسكع في مجمعات تجارية في دول مجاورة. فالسفر والخروج من حدود البلد ـ وإن اقتصر على قضاء مناسك العمرة كغطاء للحركة والسفر والخروج ـ أصبح جزءا من الموضة يحسب له أرباب الأسر حسابا، عدوى تنشرها حركة الذاهبين والعائدين إلى النساء والأطفال فيدفع ضريبتها الرجال، وتعددت صور العدوى والتقليد والمباهاة إلى الحرص على ضخامة المنزل وماركة السيارة، وإلى النمط الاستهلاكي الخاطئ، وإلى الوجاهة في الملبس والمظهر الخارجي، والادعاءات الباطلة أو (النفخة الكدابة) كما ينطقها إخواننا المصريون التي تدخل الناس في مآزق الديون وشراك القضايا والمحاكم وفقدان الثقة.. الأموال والمناصب غيرت النفوس وبدلت القيم والأنماط، وصرفت الأفئدة والعقول، الصراع عليها والجري حد انقطاع النفس خلفها أعلى من ثقافة المصالح الخاصة على حساب مصالح العموم وأفضى إلى التنصل من الموروثات الجميلة ومن ثقافة المجتمع في بساطته سلوكا وتعاملا وفي تسامحه وتكاتفه، وأجرت بدعا وممارسات ما أنزل الله بها من سلطان، ونصبت الحواجز وقسمت المجتمع إلى فئات، تناسى الكثير من الناس قيمهم وتقاليدهم الأصيلة وعلاقاتهم الوطيدة وتخلوا عن المعاني الحقيقية للسعادة، وما رأيناه وتابعناه، ونراه ونقرأه عن قضايا المال وتراجع القيم والأخلاق ممثلة في: المحافظ الوهمية التي استقطبت الملايين، جرائم الشيكات بدون رصيد، السرقات والاستيلاء على أموال الناس بصور وأشكال شتى، فساد المال بوجوهه المخيفة والخطرة التي استشرت واتسعت، صور التضليل والتدليس التي طالت حتى التعليم وتطبيب الناس، ممارسات التزلف والتملق والكذب من أجل حفنة من المال أو منصب زائل، الغش الغذائي، البخل الشديد الذي يظهره الأغنياء في صور وأشكال أقرب إلى النكتة وقصص الجاحظ منها إلى الحقيقة، ولولا أنها فعلا حقيقة ومؤكدة ومرئية ما صدقها العقل، ما هي إلا أمثلة لقليل من كثير. ما أن يتغير الحال مالا كثيرا أو منصبا كبيرا حتى يهجر الواحد منا قريته وحيه السكني، ويبدل صداقاته ويغير سلوكه وطباعه وتقاليده ويتناسى ما كان عليه، ينتقل إلى حي سكني راق مع من هم في طبقته، ينشئ صداقات جديدة تقوم على المصالح، وعلاقات تتلاءم أو تتواءم أو تنسجم مع ثقافة وطبائع وسلوكيات الوجهاء والمسئولين الكبار والأثرياء، ولابد للإنسان أن يتساءل عن قيمة الثراء ومكانة الأغنياء ومدى علاقتهم بالمحيط إن لم يكن لهم دور حقيقي في تنمية مجتمعاتهم والمساهمة في إعادة البسمة إلى الأطفال اليتامى والمساكين، إن لم يقدموا القليل من مالهم لبناء المؤسسات الخيرية والتعليمية التي تخدم الناس وتجعل حياتهم أكثر يسرا وسهولة، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي مرت بها البلاد؟ أين هم عما يحدث في الغرب من صور مشرفة لعدد من الأغنياء والمشاهير الذين يزهدون في المال، ويبقون على حياتهم كما كانت عليها، لا يغيرون منازلهم لأنهم كانوا سعداء فيها فلا يطيقون فراقها، ولأنها واسعة وتكفيهم لاستمرار الحياة وبسبب الارتباطات الوثيقة التي تربطهم بجيرانهم، يتبرعون بالجزء الأكبر من ثرواتهم لمن يحتاج إليها للمؤسسات الخيرية والتعليمية وللتخفيف عن حياة الفقراء يتنقلون في الأدغال والمخيمات، وفي الأحياء الفقيرة ليساهموا بكلمة وفعل، وليكونوا قدوة حسنة لأقرانهم وليتبرعوا بالمال لمن يستحقه ولمن هم بحاجة شديدة إليه يعيدون الطمأنينة والتفاؤل والأمل إلى الناس، وفي ذلك كل الخير وكل السعادة وكل الطمأنينة والمعاني الإنسانية النبيلة والراقية وهم الذين بنوا حياة المال والثراء خطوة إثر خطوة بدأوا بمهن اجتماعية وضيعة، غسل الصحون أو بيع الجرائد أو مسح الأحذية، ما كانوا عالة على دولهم بحجج وادعاءات شتى ولم يطمعوا في المال العام ويتكسبوا من وراء مناصبهم ولن يستطيعوا ذلك وإن أرادوا. الثراء نعمة عظيمة عندما يتم اكتسابه عبر طرق طبيعية، وعندما يصل الغني إلى مرحلة الغنى بعد عناء ومشقة يسبقهما تخطيط وتحديد للأهداف وعمل متواصل وبناء يعقبه بناء، وعندما يضع السالك إلى طريق المال مخافة الله مع كل خطوة يخطوها، ومرحلة يصل إليها، فينمي المال ويجمعه بقدراته ووفق أسس شرعية وحرص على عدم مخالفة النصوص القانونية، وعندما ينفق جزءا منه في خدمة المجتمع .. والمنصب أمانة وشعور بالمسئولية، وعمل يقوم على الإخلاص والتفاني والجد وخدمة الوطن ومراعاة مصالح الناس وإعلاء المصالح العامة للمجتمع، وتتطلب من المسئول أن يفتح بابه مشرعا للحوار والاستماع إلى الملاحظات والأفكار، وأن يقدر كل الآراء وإن كانت ناقدة لسياسته ولأدائه حرصا على التطوير والتحسين وتجويد العمل والارتقاء بالأداء، وحرصا على قيم الشورى التي أمرنا بها رب العباد والتي تعتبر من أساسيات ثقافة المجتمع، وعندما يفتح الأثرياء والوجهاء والمسئولون الكبار أبواب مجالسهم الواسعة التي لا يفتح الكثير منها إلا لإجراء الصيانة والتنظيف، عندما يفتحونها لاستقبال الناس بمختلف شرائحهم والاستفادة من ملاحظاتهم ومحاورتهم ومناقشتهم في كل ما يرتبط بشئونهم وشئون حياتهم، وقضاء حوائج المحتاجين والتعامل معهم ومع مفردات الحياة بذات البساطة والأخلاقيات التي كان عليها آباؤهم وأجدادهم في الماضي، ويتفقدون المرضى والعجزة للتخفيف من معاناتهم بكلمة أو رأي أو بعض من المال، ويطلعون على حال المجتمع في القرى والأحياء السكنية التي عاشوا فيها ردحا من الزمن ويأخذون أبناءهم وأسرهم إلى الأسواق والمتنزهات ويطلعون على الأحوال الحقيقية التي يعيش فيها المواطن والمشاركة في المبادرات المجتمعية بعيدا عن الرسميات والمظاهر، وتقديم رسائل إيجابية يكونون هم فيها القدوة للمواطنين... فإن الفوارق ستذوب والقيم والأخلاقيات والثقة سوف تتعزز مكانتها في المجتمع، والكثير من الممارسات والصور المسيئة سوف تتلاشى وتصحح، وسوف يشعر الغني والمسئول معا بنعم الله عليهم. إن القطيعة مع المجتمع وحالة التميز في كل شيء والتي يحرص عليها الكثير من الأغنياء والمسئولين وتحكم المادة، والمصالح الشخصية على حساب العلاقات الإنسانية السليمة والرؤية الفوقية إلى الأشياء، هي حالة غير صحية يجب التخلص منها، والتعافي من أسقامها وآثارها الخطيرة، وهي من بين أسباب عدة أدت إلى هذه الفجوة من انعدام ثقة المجتمع بهذه الشريحة فبات في منظور كل مواطن أن هذا المسئول فاسد، وذلك الغني جمع ثروته بطريقة غير مشروعة، والوجيه يعيش عالة على المساعدات الحكومية، وهم جميعا مدانون في نظره، وهي كذلك رؤية تعميمية خاطئة دون شك تسبب فيها البعض فانسحبت نتائجها على الكل. فما أحوج مجتمعنا إلى صور نموذجية مشرفة تعيد الطمأنينة والأمل إلى النفوس القلقة، وتعزز قيم التكاتف والتكافل والتعاضد، وتوثق العلاقات السليمة بين الأفراد والجماعات، وهي نماذج موجودة ومشهورة وتؤدي دورها بفاعلية، ولكن ما نتمناه وننشده اتساع نطاق ونسبة هذه النماذج لتصبح القاعدة لا الاستثناء في المجتمع.