[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
” .. أكتفي باستعراض جهود بعض المفكرين من أبرز قادة الرأي في الولايات المتحدة وفرنسا وأدعو قرائي العرب إلى تحليل هذه التيارات الفلسفية التي تقطع مع الإتجاهات التقليدية الغربية نحو ما يسمى (الليبرالية) وهي التي تعني التحررية الإقتصادية واقتصاد السوق ولكن أيضا مقرونا بالتحررية الأخلاقية والجنسية المتطرفة.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عشت نصف العمر في الغرب ولم يكن ذلك باختياري وامنت أن الله سبحانه يقدر المصائر حسب منطق رباني بل إنه تعالى جعل لي في المحنة منحة فقيض لي أن أتأمل في مسيرة هذه المجتمعات وفي الأفكار الكبيرة التي تحركها وأن أقارن بين خياراتها وخيارات مجتمعاتنا العربية وأعتقد أن هذه التأملات تخلصت من الانحرافات الأيديولوجية والأفكار المسبقة التي تتخبط فيها نخبنا سواء كانت من عبدة الغرب أو من رافضيه وكلاهما على خطأ. والذي ألاحظه هذه الأيام و نحن في منعرج حضاري دقيق هو أن أكبر فلاسفة الغرب و مفكريه أصبحوا أكثر وعيا بأولوية الأخلاق في السياسة والتربية والثقافة حتى ينقذوا ما تبقى من تراث الغرب الأدبي والروحي والفكري .وهذه النزعة نحو(أخلقة) المجتمع بدءا من السياسة والدساتير تحولت الى تيار يحظى باهتمام الجامعات والأحزاب والمجتمع المدني. وأكتفي باستعراض جهود بعض المفكرين من أبرز قادة الرأي في الولايات المتحدة وفرنسا وأدعو قرائي العرب إلى تحليل هذه التيارات الفلسفية التي تقطع مع الاتجاهات التقليدية الغربية نحو ما يسمى (الليبرالية) وهي التي تعني التحررية الاقتصادية واقتصاد السوق ولكن أيضا مقرونا بالتحررية الأخلاقية والجنسية المتطرفة.
إن ما وصلت اليه المجتمعات الغربية من (تحررية) تحول إلى أزمات ضمير لدى هؤلاء المنظرين الأمناء الذين يخشون أن تنفجر ثقافة الغرب وتحول المجتمعات الغربية إلى أدغال متوحشة أصبح كل شيء فيها ممكنا. ولنقرأ ما كتبه أكبر فلاسفة أميركا الملقب بأرسطو هارفارد وهو الأستاذ ميكايل ساندل في كتابيه الأخيرين( الذي لا يشترى بالمال) و الثاني( عدالة) وهما كتابان ترجما الى لغات عديدة واقتناهما عبر العالم أكثر من ستة ملايين قارئ وفي الكتابين يناضل الأستاذ ساندل من أجل إعادة النظر في منظومة العلمانية التي أصبحت نوعا من الدين الجديد ويؤكد أن مبادئ العلمانية انحرفت عن إرادة مؤسسيها لأنهم أرادوها حيادية الدولة إزاء الأديان لا حيادية الدولة إزاء الأخلاق. ويدعو المفكر إلى تدخل الدولة لأعادة منظومة القيم العليا التي تؤسس الأمة على جملة من المبادئ و القيم التي تحميها لا أن تكون الدولة هي نفسها المنظمة للإنحراف والمشرعنة للتسيب والمبررة للرذيلة تحت شعارات العلمانية وباسم الحريات الشخصية وتحييد السلطات العمومية عن هندسة المجتمع وتقويمه وهب بعض الناقدين يعيبون على ميكايل ساندل رفضه للإجهاض المتوحش والزواج بين المثليين بينما التف حوله في هارفارد وفي الولايات المتحدة وفي أوروبا مؤيدون متحمسون مقتنعون بأفكاره. وفي كتاب(العدالة) يدافع الأستاذ عن الأبعاد الحقيقية المغيبة في العدل وينادي بأن تكون الدولة هي الضامنة للعدالة في بعدها الإجتماعي والقضائي والأخلاقي لا أن تكتفي بتطبيق القانون بشكل أعمى وميكانيكي جامد بل أن تحدد الدولة فلسفة القانون لا بنوده فقط وتعمل على إشاعة الفضيلة في المجتمع وهذا هو المعنى العميق الذي يعطيه المفكر للعدالة. أما الفيلسوف الفرنسي ميشال هونفراي وهو صاحب أكبر المبيعات لكتبه فهو أطلق صيحات فزع من انهيار القيم الأساسية للغرب التي صنعت نهضته وبوأته منزلة الريادة ودعا أخيرا إلى تغيير عميق في الدبلوماسية الفرنسية حتى تتلاءم مع المنظومة الأخلاقية لفرنسا بحيث لا تكون بلاده عربة تجرها القاطرة الأميركية والروسية في قصف المدن في سوريا والعراق وليبيا واليمن بدعوى مقاومة الإرهاب ثم نتعجب إذا ما استهدفنا الإرهابيون في عقر ديارنا !هذا المفكر يحظى هنا في بلاده باحترام و يثير جدلا واسعا وهو لا يبتعد عن زميله الأمريكي المذكور في الدفاع عن غرب مختلف بفضل مخزونه الأخلاقي وحفاظه على القيم. ثم ننتقل إلى أبرز علماء الإجتماع الفرنسي (إدجار موران) الذي يعتبر منظر القرن الحادي والعشرين في كتبه العشرين ومداخلاته الاعلامية ومقالاته في صحيفة لوموند فهو الذي أصبح يدافع عن القضية الفلسطينية دفاعا موضوعيا ومستمرا لأنه يعتبر الظلم المسلط من قبل الحكومات اليمينية الصهيونية على الشعب الفلسطيني السبب الأول لتنامي ظاهرة العنف والإرهاب في المشرق الإسلامي وهو يدعو الغرب للضغط على إسرائيل لتغيير سياساتها الكارثية والانخراط الصادق في مسيرة السلام ثم هو في كتابه(في نسق العالم) يؤكد على أن الحضارة الإسلامية عبر التاريخ كانت الأكثر تسامحا و تحاورا بين الأديان و حماية للمسيحيين واليهود المضطهدين في العالم و خاصة في مرحلتي الأندلس المسلمة و الخلافة العثمانية بل يؤكد(إدجار موران) على أن الغرب هو الذي أسس التوحش وشن حروب الإبادة في مراحل تاريخية كثيرة منها الحملات الصليبية وفرض الإستعمار بالقوة و إبادة السكان الأصليين لأميركا وصولا الى حرب فيتنام و فتح محتشد جوانتانامو دون أي تبرير قضائي اميركي أو أممي. أما المفكر الإقتصادي والاستراتيجي الأميركي ليندن لاروش )وهو المستشار الأسبق للرئيس رونالد ريجان في الثمانينيات) فهو رغم بلوغه التسعين لايزال متمسكا بأفكاره الداعية للسلام العالمي على أساس العدل السياسي و احترام طبيعة الحضارات الأخرى وهو يقاوم نظرية صدام الحضارات التي يقول عنها أنها هي المحركة للسياسات الأميركية والأوروبية منذ ثلث قرن و يدعو إلى تحالف الحضارات لإقامة ما يمكن تسميته بطريق الحرير الجديدة و ذلك بتضامن اقتصادي بين القوى العظمى وتنسيق استراتيجي بين موسكو وواشنطن وبكين عوض التهيأة لحرب عالمية ثالثة قد تكون الأخيرة لأن البشرية لن تصمد في جحيم نووي. اليوم وأنا أكتب هذا المقال يجري في بريطانيا استفتاء سيقرر مصير الاتحاد الأوروبي فإما تخرج المملكة المتحدة أو تبقى ومهما كانت النتيجة فإن أقوى أركان الحضارة الغربية سيظل مهددا بالإنهيار والسبب الأساسي هو تصدع المجتمع الأوروبي الفاقد تدريجيا لقيم الأخلاق في التعاطي مع معضلات العصر فانظر إلى تصاعد مخيف لأحزاب اليمين العنصري التي تصل اليوم الى سدة الحكم بالانتخابات وتنادي بالغاء الحضارات الأخرى وتهجير النازحين اليها و إيصاد جميع المنافذ والحدود واقامة الجدران السميكة ثم انظر الى حركات التحلل الأسري واستشراء العنف ضد الأقليات وضد المرأة (في فرنسا تقتل امرأة كل يومين على يد زوجها على سبيل المثال باحصائيات رسمية من وزارة العدل هنا) والغاء المسنين بلا رحمة لتقام لهم دور المسنين المخصصة لموتهم لا لحياتهم وكل هذه المظاهر تدل على شيوع الأنانية الإجتماعية و اقصاء القيم الأخلاقية و الدينية من حياة الناس و لدينا في مجتمعاتنا العربية المسلمة من ينحاز لهذه الانحرافات لأنها جاءت من الغرب وهم من عبدة الغرب و سبق أن حذرهم العالم الأمين (إدغار موران) حين نصحهم بعدم استيراد كل ما في الغرب لأن هؤلاء أيتام الحضارة سوف يستوردون أيضا معضلات الغرب و أزماته كما نبه الغافلين من أبناء جلدتنا إلى أن اعتماد حداثة الغير للتقدم أمر مستحيل لأن لا نهضة لأمة إلا باعتماد أمجادها و قيمها و جذورها . لكنهم لا يسمعون و لا يفقهون و على قلوب أقفالها.