[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2015/03/must.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أحمد مصطفى[/author]

” يمر الفرد في أغلب المجتمعات العربية، إذا كان معنيا بالحياة العامة طبعا، بمراحل تقليدية ما بين اليسار واليمين فكرا وأحيانا تنظيما قبل أن يستقر به المقام في هذه الناحية أو تلك أو يختار مسارا آخر. وغالبا ما كانت فترة الدراسة الجامعية مرحلة التأرجح والتكوين تلك. كان هذا في القرن الماضي وحتى العقدين الأخيرين منه قبل أن يدخل العالم كله، وبعده منطقتنا، مرحلة "الميوعة" في كل شيء.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما ينطبق على الإنسان، الفرد البشري، ينطبق على الجماعات والأمم ومن ثم الدول إلى حد ما. مع الفارق طبعا أن تجارب الفرد وخبراته تظل محدودة مقارنة بالتجربة الجماعية وتراكم الخبرات لدى الجماعات والشعوب. وإذا كان الفرد لا يلدغ من جحر مرتين، أو كما يقول المثل "أن تخدعني مرة، عليك العيب وأن تخدعني ثانية فالعيب فيّ"، فإنه يفترض أن تكون الجماعات والشعوب والدول أكثر حرصا من أن تقع في الفخ ذاته أكثر من مرة. لكن يبدو أن تلك القاعدة أصبحت محل شك في ظل موجة "التسطيح" والتفاهة التي تسود العالم في هذه المرحلة الانتقالية التي بدأها منذ نحو ثلاثة عقود انتقالا من عصر إلى عصر مختلف تماما. ولا حكم قيميا على هذا، لكنها مجرد ملاحظة لعل التمعن فيها يفيد في تلافي أمراض الانتقال بين الفصول وأضرار ما بين المراحل في تطور البشرية.
يمر الفرد في أغلب المجتمعات العربية، إذا كان معنيا بالحياة العامة طبعا، بمراحل تقليدية ما بين اليسار واليمين فكرا وأحيانا تنظيما قبل أن يستقر به المقام في هذه الناحية أو تلك أو يختار مسارا آخر. وغالبا ما كانت فترة الدراسة الجامعية مرحلة التأرجح والتكوين تلك. كان هذا في القرن الماضي وحتى العقدين الأخيرين منه قبل أن يدخل العالم كله، وبعده منطقتنا، مرحلة "الميوعة" في كل شيء. وكما يحدث مع الفرد الذي يتأرجح في فترة الشباب ويستقر في مرحلة النضج، يحدث للجماعات والشعوب. وقد مرت بلدان المنطقة بمرحلة التحرر وبداية بناء الدولة مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، وكان الطبيعي أن يقارب القرن العشرون نهايته وأغلب دول المنطقة في مرحلة نضج وحكمة تؤهلها لجني ثمار النضال للاستقلال وانهاء الاستعمار. لكن ما نشهده الآن في طول المنطقة وعرضها يشير إلى أن الأمور لم تشر كما كان متصورا منطقيا، أو بمعنى آخر لم تكن "كما الكتاب".
يمكن للمحللين والأكاديميين أن يضعوا مجلدات في تحليل وتقييم وتفسير ما حدث ويحدث، ومقدماته ومنطلقاته، لكننا هنا نشير إلى لمحة ـ قد تكون خاطئة أو غير دقيقة ـ تتعلق بتماثل ما بين الفرد والجماعة في التعلم من التجارب والاستفادة من الدروس. فمع بداية القرن الحادي والعشرين، ووصول مرحلة الانتقال الحضاري إلى ذروتها، تمكنت من العالم حالة السطحية والتفاهة والتبسيط (بمنظور الأجيال السابقة طبعا، ويمكن أن يكون ذلك بداية أمر جيد جدا) التي تميز "جيل الانترنت" كما يطلق عليه استسهالا. ومع أن ذلك قد يكون مؤشرا على مرحلة أفضل في تطور البشرية إلا أن الحكمة لا تأتي إلينا إلا متأخرا ومن ثم نعرف "بعد فوات الأوان". لكن حتى الحكمة المتأخرة أصبحت "مخففة" جدا الآن، ولم تعد تفيد حتى في الفهم والتفسير باستخدام الوعي المتأخر. من هنا، ليس غريبا ان نرى الفراد والجماعات والشعوب يكررون ذات الخطأ مرات، ولا يتعلمون من الدروس الصعبة والقاسية التي يمرون بها.
لم تفد الحكمة المتأخرة أهل ليبيا مثلا، الذين لم يتعلموا من درس التدمير والتخريب لميليشيات الإخوان والجماعات الإرهابية المنبثقة عنهم، وما إن فرض الغرب حكما يضمهم عاد الجميع يهرولون صوب ذلك باعتبار أنه "إرادة دولية" مع ان تلك الإرادة الدولية هي من دمرت بلدهم وما زال دخان حرائقها يتصاعد من بعض المناطق. ولم يستفد العراقيون ولا السوريون ولا المصريون وغيرهم كثر. بل إن هناك حالة لبلد مؤمن جدا لا يفتأ يلدغ من ذات الجحر مرات ويكرر المرور به بل ومد اليد فيه أحيانا. ومن بين من لدغوه أيضا تنظيم الإخوان، لكن الحكمة تجاههم يبدو أنها لم تأت ولا حتى متأخرا. لا، بل ليس بلدا واحدا وإنما أكثر من بلد، ولا أظن أننا سنتعلم من تلك الدروس ولا بعد مئة لدغة.
من ميزات الحكمة المتأخرة انها لو لم تفد صاحبها فإنها تشكل تراث معرفة ينقل للجيل التالي، فتقيه شر الوقوع في ذات الفخاخ التي تعلمنا منها الدرس. لكن يبدو ان مسألة التراكم المعرفي والخبرة الجماعية المتصلة لم تعد مهمة في زمن التخزين الالكتروني واستدعاء كل المعارف والمعلومات من جوجل، ما عطل ملكات كثيرة في العقل البشري (ومن ثم في العقل الجمعي للشعوب). ليس معنى كل ما تقدم أن البشرية على وشك افتقاد الحكمة نهائيا، إنما هو تغير في ما نعتبره حكمة وما نراه سفها، ليس فقط قاصرا على تصورات جيل سابق تغاير تصورات جيل حاضر او مستقبلي وإنما تغير جذري يتسق مع التحول الذي تمر به البشرية جمعاء. بالضبط كما انتقل العالم من الرأسمالية الزراعية إلى الرأسمالية الصناعية ثم الرأسمالية المالية ويتجه الآن نحو الرأسمالية التكنولوجية، سيتغير مفهوم وطبيعة "الحكمة" من أنها خلاصة تجارب حقيقية ونتائج دروس عملية بل قد تصبح "الحكمة" مجرد تصورات غير واقعية (فيرشوال) تناسب حقبة الحضارة المحاكية للواقع التي يبدو أن العالم مقبل عليها.