يبدو أن منهج الهيمنة الذي ساد على مدى عقدين ونصف من التفرد الأميركي بالعالم لا تريد الولايات المتحدة التخلي عنه، كما لا تريد أن تعترف بأن العالم يتجه نحو التغيير، وترفض الإيمان بأن من سنن الحياة صعود قوى وانهيار أخرى، وصعود حضارات وتراجع أخرى؛ ولذلك تواصل الجمع بين مفردات اللغة المتعالية وبين التدخل العسكري المباشر أو بالوكالة، فأخذ الخطاب الأميركي يتمترس خلف ذلك، ويرفض أي مقاربة سياسية حقيقية عقلانية وموضوعية، في إصرار أميركي على تجاهل ما تعرض له مشروع الهيمنة الأميركية من انتكاسة واضحة وصريحة على مسرح الأحداث العالمية.
التدخل العسكري الأطلسي المباشر في ليبيا والذي قادت دفته ـ ولاتزال ـ الولايات المتحدة من الخلف فترات، وبصورة مباشرة فترات أخرى، وذلك للإطاحة بهذه الدولة العربية وإسقاطها كحلقة ثانية بعد العراق، يكشف جانبًا عن حقيقة مشروع الهيمنة الأميركية ـ الغربية ـ الصهيونية على المنطقة؛ لكون أن ليبيا لم تكن على مسافة قريبة من السياسات الأميركية والغربية والصهيونية ومتوادةً معها، ولم تكن ضمن معسكر "الاعتدال" الأميركي ـ الغربي؛ حالها حال العراق وسوريا اليوم التي تتعرض لهجمة أميركية ـ صهيونية ـ غربية شرسة لكونها تمثل الحلقة الثالثة من مشروع الهيمنة الذي اصطلحت على تسميته القوى العظمى باسم "الشرق الأوسط الكبير".
لقد راهنت الولايات المتحدة ومعسكرها على الجماعات الإرهابية والإسلامية في إنجاز مشروع هيمنتها على المنطقة، سواء في ليبيا حالها حال العراق وسوريا اليوم، وفي سبيل ذلك لاتزال تواصل دعم هذه الجماعات باعتبارها البديل الأنسب ـ حسب تصورها ومخططها ومن منطلق خبرتها في إنتاج وتحريك ودعم هذه الجماعات ـ للعب دور الحرب بالوكالة نيابة عنها لتجنب الخسائر المالية والمادية والبشرية التي مُنيت بها في حربي أفغانستان والعراق، وتوظيف هذه الجماعات سلاحًا في استنزاف خصوم الولايات المتحدة وانهاكهم وضرب مصالحهم وإخراجهم من المنطقة، وفي مقدمة هؤلاء الخصوم روسيا والصين اللتان لم يعد لهما موطئ قدم تقريبًا في ليبيا، وفي العراق تواجهان حربًا شرسة وشعواء أميركية عبر حلفائها الذين جاءت بهم عبر دبابات غزوها، وفي سوريا تواصل شحذ سواطير ورماح الجماعات الإرهابية والإسلامية لاستنزاف الخصوم في مرحلة أولى ومن ثم توجيههم إلى أراضي الخصوم في مرحلة ثانية، كما يخطط له راسمو مشروع الهيمنة.
غير أن النتائج في ليبيا بقدر ما تعكس حجم التآمر والمخطط لتدمير هذه الدولة العربية وتحويلها إلى دولة فاشلة، بقدر ما تعكس أنها من الممكن أن تتحول إلى عبء وربما كارثة محدقة بأقرب حلفاء الولايات المتحدة وخاصة أوروبا التي لا تزال تذوق الأمرَّيْنِ، ولعل الهجمات الإرهابية التي شهدتها دول القارة العجوز مثل فرنسا وبلجيكا وألمانيا والسويد، والحبل على الجرار ـ كما يقال ـ تبيِّن حقيقة ذلك.
لقد قال الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي بما معناه أن ليبيا الموحدة تحت قيادته تمثل ضمانة لاستقرار أوروبا، فليبيا طوال الحقب الماضية حافظت على نظافة مياه البحر الأبيض المتوسط من رجس الإرهاب، وكذلك من موجات الهجرة التي باتت تمثل عبئًا اقتصاديًّا كبيرًا اليوم بعد الإطاحة بليبيا، بالإضافة إلى من يندس فيها من عناصر إرهابية ربَّتها ودرَّبتها المخابرات الأميركية ومخابرات بعض الدول الأوروبية لتدمر وتقتل وتبيد في دول المنطقة في ليبيا والعراق وسوريا وليبيا وتونس ومصر والجزائر وغيرها. فها هي وسائل الإعلام الايطالية تنقل أن السلطات الليبية أبلغت أمس إيطاليا بوجود خلية جهادية قرب ميلانو، وهي على صلة بأحد قادة تنظيم "داعش". وتكشف وثائق عثر عليها عناصر في أجهزة الاستخبارات الليبية في سرت (شمال) بعد استيلاء القوات الموالية لحكومة الوفاق على مقرات تنظيم "داعش"، وجود هذه الشبكة. وتتخوف إيطاليا التي أعلنت فيها حالة استنفار مرتفعة لمواجهة التهديد الجهادي، من أن يجتاز عناصر من "داعش" أتوا من سرت البحر المتوسط على متن سفن للمهاجرين، من أجل شن هجمات في إيطاليا. وهنا لا بد من التذكير أنه وبغض النظر عن حقيقة هذا المستجد، إلا أن عودة الولايات المتحدة إلى التدخل العسكري المباشر في ليبيا هي تكريس لما بدأته بقيادة حلف شمال الأطلسي، ومتابعة للأهداف الموضوعة التي أتينا على ذكرها آنفًا. كما أن هذه العودة تؤكد أن الولايات المتحدة لا تتخذ من أوروبا طابورًا خامسًا لها فحسب، وإنما تؤكد أيضًا أن الولايات المتحدة سبب مباشر فيما يحصل من هجمات إرهابية في القارة العجوز.