كان يوما حزينا وشاقا على مسلم توافد المعزين من مناطق كثيرة، من الجبال ومن ولايات ومدن محافظة ظفار. انتظرت الجموع هبوط الطائرة التي تحمل الجنازة، فنزل مسلم من الطائرة فاستلمته الجموع الغفيرة في المطار، وشرع المستقبلون يقومون بالواجب بأفواههم وأيديهم بالقبلات والكلمات وتعظيم الأجر قائلين: عظم الله أجركم!،. وهو يرد عليهم: الأجر واحد، الأجر واحد، يرددها كثيرا وهو يلتفت يمينا وشمالا، وبعض المعزين يسحبه من يده اليمنى وبعضهم يجرونه من يده اليسرى، بينما يتدافع إليه بعضهم من الأمام ومن الخلف، وهو في حالة ذهول لا يكاد يلتفت إلى أحدهم حتى يفاجأ بشخص آخر يسحبه إليه، ومضت تلك اللحظات بصعوبة ووجد نفسه مع الجنازة داخل سيارة اسعاف البلدية التي كانت منتظرة منذ الصباح الباكر، وانطلق موكب العزاء متجها إلى المقبرة، وهنا فوجئ ابن الميت بآلاف المشيعين سبقوه إلى المقبرة، ولم يعطوه فرصة أن ينزل من الإسعاف حتى استلموه بقولهم: عظم الله أجركم، وبعد جهد عسير استطاع أن يفلت منهم وأمسك بطرف النعش واتجه به بمساعدة أقاربه إلى داخل غرفة غسل وتجهيز الميت قبل الصلاة عليه... أخيرا انتهى مسلم وأقاربه من غسل الميت وتجهيزه وشرعوا يحملون النعش على أكتافهم حتى أنزلوه بصعوبة شديدة في محراب المسجد، وتداعى الناس يتزاحمون بالأكتاف والمناكب لمصافحة مسلم وتعظيم الأجر، ودخل مسلم مرة أخرى في حالة ذهول، وهو لا يكاد ينتبه أو يفيق أو يقول شيئا، كان العزاء عنيفا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وعندما تلاشى اندفاع المعزين وهدأت جلبتهم داخل المسجد، قام مسلم يشكر المعزين بصوت حزين، يحاول أن يستجمع فيه قوة رجولته التي أعياها الحزن ونال منها السفر والإرهاق. كان الأمر صعبا، وتلعثم أكثر من مرة، لكنه استطاع أخيرا أن يشكر الحضور، وأعلن استعداده لسداد ديون والده إلى المدينين، وألح على كل من له دين أو حقوق أن يسرع إلى استلام حقه قبل الدفن. هذه هي العادة المتبعة في محافظة ظفار، وبعد ذلك أخبر مسلم الحضور أن العزاء سوف يستمر ثلاثة أيام، وبعد مراسم الدفن انطلقت تلك الجموع الغفيرة إلى خيمة العزاء، وبدأت حلقة أخرى من العزاء، وعاد مسلم إلى الذهول مرة أخرى، وهو يٌسحب من يديه ومن وجهه إلى المعزين الذين كانوا يتسابقون إلى تأدية واجب ثقيل لم يكن يمنحهم الفرصة؛ لكي يتحركوا في وقار ويسلموا على أهل الميت مظهرين الحزن والاحترام.
استمرت الجموع الغفيرة تتدافع من الصباح إلى المساء، ووجد مسلم نفسه يسارع في ذبح الماشية وإعداد المآدب والوليمة تلو الوليمة، وساعده أهله وجيرانه في استلام تلك الجموع الحاشدة، وأعانوه في استقبال المعزين والحديث إليهم، لكن كل تلك الحشود تأتي وهدفها واحد هو السلام على مسلم وتقديم العزاء إليه في وفاة والده.
تواتر النحر وتعاظمت الجموع الغفيرة، وامتلأ بيت مسلم بالنساء من جميع المناطق، وضاقت الخيمة بأعداد المعزين، الذين أخذوا أماكنهم داخل الخيمة، يحتسون الشاي ويدخنون ويتضاحكون وتحول العزاء إلى تجمع من نوع آخر أقرب إلى الزواج منه إلى العزاء، لكن كل ذلك لم يحل دون إقبال المخلصين من أقارب وأصدقاء مسلم الذين كانوا يساعدونه بالماشية والتجهيزات والمكوث معه إلى أوقات متأخرة. ثلاث ليال كاملة، كانت أيام العزاء طويلة، شغل كثيرا من الناس عن أعمالهم وأعاق انجاز معاملات الناس في المكاتب والمؤسسات، وكبد أهل الميت خسائر مالية باهظة مما ضاعف مصابهم وحمّلهم ما لا يطيقون.

د. احمد بن علي المعشني
رئيس مركز النجاح للتنمية البشرية