غير مكترث بالالتزام .. ويرى أن الذات هي القضية
* وسائل التفكير القديمة تحكم آراءنا النقدية وهذا يجعل شعرنا يلامس أشكالا حداثية لا يخلقها
* ثمة من أراد أن يجعل السائد الشعري الفلسطيني مقدساً لتقديس السائد السياسي
حوار ـ وحيد تاجا :
يؤكد الشاعر المبدع عبدالله عيسى أنه ليس من الشعراء الذين يكتبون بأغراض شعرية، ولا يؤمن أن الشعر الذي يكتب بالغرض الشعري شعر أصلاً.. ويضيف في حواره مع "اشرعة" : على الشاعر ألا يتقدم في نصه بتصورات نقدية مسبقة، فأي انحياز لطريقة تعبير أو مدرسة شعرية أو نقدية ..إلخ هو بمثابة إطار يحد من حريته ويجعل من قصيدته قفصاً له. وهو لا ينفي اتهام قصيدته بالغموض والرمزية المكثفة. الشاعر عبدالله عيسى حاصل على دكتوراه بالآداب من جامعة موسكو، وحائز على عدة جوائز عالمية. ‏عمل في مجال الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع منذ مطلع الثمانينات، كما عمل محرراً للشؤون الثقافية في راديو " صوت روسيا" منذ مطلع التسعينات. ثم مديراً لوكالة الأخبار العربية منذ 2008، وممثلا ً لمحطة وتلفزيون دي إتش فيللي. صدر له (شعريا) : آلاء ـ موتى يعدون الجنازة ـ حبر سماء أولى ـ قيامة الأسوار ـ رعاة السماء، رعاة الدفلى. و(نقديا) : رؤيا ـ الكلمة والروح في الشاعرية العربية ـ مقدمة في علم الجمال الشعري العربي. وأنتج العديد من الأفلام الوثائقية من أبرزها : " أربعون يوما ً على بيصلان " ، " اسكنهيد روسيا ـ فاشيون " ، " عودة المهاجرين اليهود "

* أعلنت، ومنذ البدايات، تمردك على السائد الشعري الفلسطيني المألوف وقلت: " كان عليَ لزاماً في بحثي عن نصي الخصوصي أن أعلن القطيعة مع تلك القصيدة بأشكالها المعتادة ومع التصورات التي أنتجتها وصوّرتها نموذجاً مقدساً" .. كيف ترى الان تجليات هذا التمرد وهذه الخصوصية..؟
** ثمة من أراد أن يجعل السائد الشعري الفلسطيني مقدساً لتقديس السائد السياسي الفلسطيني، طالما ظل الشعري كثيراً رجع صدى للسياسي. ندرة من شعراء فلسطين كانوا لا يرددون إيقاع القصيدة ذاتها، (محمود درويش في نماذجه الأخيرة خاصة حين جعل من ذاته مشروعاً إنسانياً مثالاً، فيما بقي مجايلوه صدى بعيداً لذلك الصوت ). وثمة احتفائية نقدية فلسطينية، ارتهانا ً للسياسي، بهذا النموذج السائد، وعربية لتقديم أسوأ نماذج القصيدة الفلسطينية، كما كانت المؤسسة الثقافية الفلسطينية نفسها متورطة للإساءة لفلسطين حين طرحت هذا النموذج صورة لشعرنا المترجم، ما أساء للقضية الفلسطينية ذاتها. وما زال هذا التعسف يمارس خاصة مع تقديم أصوات رديئة متشابهة خطابية ساهمت فيها أيضا ًالفورة النفطية وفورة المهرجانات والجوائز وسواها ..
لكن بالمقابل ، ثمة نص جديد فلسطيني يكتب بإيقاعات الذات المتحركة التي تكثف في تجربتها أبعاد التراجيدية الفلسطينية، لكن أحداً لا يتقدم نحوها من هؤلاء للأسباب التي ذكرت. وهي مثل نصوص جيلنا في ثمانينات القرن الماضي دون آباء شرعيين، مطرودة من رحمة السائد المطلوب الذي يستدرج التصفيق في الاحتفالات بذكرى النكبة والنكسة والانقسام والهزائم والمجازر ..الخ . بهذا النص الجديد الذي يزحف لينتصر على السائد المكرّر المشوّه بشّرت ومن معي من شعراء فلسطين، ومنهم من كان قبلي أيضاً .
هذا الخروج عن الشعر الفلسطيني الذي اجتر ّ نفسه في تلك النماذج التي قصدتها، جعلني ومن يكتب مثلي نصاُ جديداً، أقدم فلسطين لا رمزا ً أو مكاناً بل روحاً طالما أصبح رمزها ومكانها وتفاصيل تراجيدياها وحلمها المتقدم إلى الأبدية. ففلسطين ليست قضية جغرافية متنازع عليها، بل التاريخ كله أيضاً وهو يلتبس على ذاته في مرآته: الإنساني في مواجهة الوحشي، الحلم مقابل القنبلة النووية، الضحية التي تشكو قاتلها لها لتصير أجمل منه في حبر الرواة ..الخ . ولهذا أنحاز لتقديم مشروع جمالي إنساني في مواجهة شرعة المحو والقتل والدمار، وأؤرخ للسؤال الفلسطيني المتعدد، المتحرك في حركة التاريخ في مواجهة اليقينية الثابتة في الرواية العدوة. وكأنني أصعد أعلى الصلبان وأصرخ : أنا أجمل من قاتلي. هذا ما شاءا ديواناي: " قيامة الأسوار " و " رعاة السماء ، رعاة الدفلى " .
فـ ( قيامة الأسوار) يوغل في التاريخ الذي أرّخ لحياة الأرض المقدسة بحجر الرؤيا المحفوظ بروايات مسيحية وإسلامية أصّلت لروحها الإنساني لتناقض مرور رواية العابرين الطارئة فيها، حتى أنهم لم يعثروا على ظل لهم على حجر في المكان المقدس .
فيما أستكمل في " رعاة السماء، رعاة الدفلى " نقش الرواية الفلسطينية بماء الحياة في مواجهة ريح اختلاطهم على المكان ليختلفوا معنا عليه . يصبح صوتي هو المتن الأبدي، وصداهم هو الهامش الغائب. اللغة هنا ذاتها تصبح الرؤيا ذاتها ، وفلسطين نفسها تغدو رواية الإنسانية كلها نفسها.

* تتساءل في أحد حواراتك: هل على القصيدة أن تؤسس لعالم جمالي أم تخلق واقعاً أم تقترب من هذا الواقع.. ما رأيك أنت ؟..
** أنتصر لرؤيا أن على كل قصيدة أن تخلق ذاتها بذاتها لتصبح عالما جماليا خاصا. أي أنها في تفاعل بعدي المبنى والمعنى تؤرخ لجماليات جديدة غير مكتشفة من قبل . وهي بهذا تصبح الدال ّالأكبر عبر حركية الدلالات التي تقدمها معنوية كانت أم صوتية. فاللغة لا تكتفي بأن تكون خطاب تلقي، والصورة تنحاز لأن تبتعد عن اعتبارها أداة وصف، والفكرة تنتقل إلى مدار الرؤيا .. الخ . فالأفكار على قارعة الشارع ، ووصف الشيء محاكاة له في أفضل حالاته، وتفسير العالم تعليق على أشيائه في الأغلب . من هنا، تتجلى القصيدة / العالم الجمالي واقعا فنيا يكتشف ذاته مع كل قراءة، ويكشف عن دلالاته كونه يتحرك إلى زمنه الشعري باعتباره الدال المتحرك أبدا. وهذا يشكل صداما حقيقيا مع التصورات المألوفة للشعرية العربية . ألا ينبغي علينا أن نكتشف أننا كعرب لا نمتلك علم جمال شعري ؟ فما تزال وسائل التفكير القديمة تحكم آراءنا النقدية بعد، وهذا يجعل شعرنا يلامس أشكالا حداثية لا يخلقها، طالما ما نزال محكومين بالنظرة القديمة للشعر وبوسائط التفكير التي أنتجتها، وإلا لماذا تسود الخطابة على الكتابة حتى وقتنا، والفصاحة على الخلق الفني، وبالتالي الإتباع على الإبداع . وهنا جوهر المسألة على صعيديها الجمالي والوجودي: كيف يمكن ان تكون شاعرا حداثيا وتتحالف مع مؤسسة تقبض على الثابت السائد دينيا وفكريا واجتماعيا ؟ هذا يحصل في عصرنا ، ويمكنني ان أستدرج أمثلة كثيرة.

* ولكنك غالبا ما تلجأ في شعرك الى صياغة الواقع بصور تجنح للسريالية والفنتازيا، وهو ما يتجلى بشكل واضح في ديوانك "، الموتى يعدون الجنازة "، ويرى بعض النقاد ان هذه الصور هي عماد عالمك الشعري ومنطلق خصوصيتك ..؟

** للنقد الإبداعي آليات قراءته للنص الخصوصية، والتي بلا شك تشكل إضاءة للشعر وإضافة نوعية للشاعر وللتجربة الشعرية برمتها. ثمة تقاد آخرون ذهبوا إلى مساحات وبرؤى أخرى في تصديهم للديوان هذا. لكن في كل الحالات، أعتقد أن على الشاعر ألا يتقدم في نصه بتصورات نقدية مسبقة ، فأي انحياز لطريقة تعبير أو مدرسة شعرية أو نقدية ..إلخ هو بمثابة إطار يحد من حريته ويجعل من قصيدته قفصاً له . أما أنا فأرى أن لا انتمائي إلى هذه التحديدات يجعل نصي مسكناً حراً لي، وأفقاُ مفتوحاً على تداخل منجزات الممارستين الشعرية والتنظيرية الإنسانيتين معا ً، وكذا تفاعل الفنون جميعا ً كالسرد والدراما وسواها من جهة أخرى .
وإذا كان ثمة تمازج بين السوريالية والفانتازية وسواها في ديواني ( وهو يضم قصائدي مطلع ثمانينات القرن الماضي ) فهذه مأثرة، طالما أن السوريالية والفانتازية هاتين أحد تجليات التخييل الشعري ( وهو خلافاً للتخيل في المفاهيم النقدية: فهو لا يقول صوغاً بل يكشف بالرؤى، ولا يفسر بل يخلق ..الخ ) .
أما ما خص الصورة الشعرية فهي التي تحرك اللغة لتصبح مجازاً، والجملة لشعرية لتصبح عالما، والقصيدة لتغدو كونا ً شعرياً جمالياً ..الخ ..

* يرى النقاد أن أهم ركائز مشروعك الشعري هي اللغة الغنائية التلقائية والقريبة إلى حدّ التماهي مع لغة المتصوّفة ومزجها بالأحاسيس الجيّاشة..؟
** أشهد أنني قد كتبت إذن طالما رأت حذاقة النقد في شعري هذا وسواه. حلول الصوفية فيّ، أو تجلي ذاتي فيها ليس طارئاً: لفظة وروحاً. لا خطاب مع النص، طالما المتن ليس هامشاً. وبالتالي لا تشرح اللغة ذاتها أو تفسر دلالاتها طالما أنها هي الدال الأول في الرؤيا. وهي لا تكتفي لذاتها بأن تكون العلاقة بين الملقي والمتلقي كما عهدنا في أدبيات البلاغة والخطابة لإيصال رسالة، بل كنه اكتشاف الذات والعالم في النص، ما يعني أن الشاعر والقارئ يكتبان اللغة معاً: الشاعر لحظة الخلق والقارئ في حركية إعادة ما صار مخلوقاً باللغة.
هنا يحل التأويل بدلاً عن التفسير، وتزيح اللغة ذاتها بوصفها صورة لتصبح مجازاً، ويغدو فعل الإبداع الشعري كتابة لا خطابة، والتلقي قراءة لا تلاوة.. الخ. ولهذا ينبغي التحرك خارج النص المقدّم من سلطة الخطاب السائد، طالما أن كل منتج إبداعي هو تقديم رؤيا جديدة للإنسان والعالم، ما يفضي إلى أنه بالضرورة كسر لصورة المألوف، الثابت لمصلحة الدخول في الزمن الإبداعي المتحرك. وهنا يصبح لزاماً أن تنقاد للاعتقاد بأن كل نص مكتوب، حتى نصك، أصبح مألوفاً، ما يفترض عليك أبداً البحث عن الجديد لخلقه في إيقاعات فنية مختلفة وخصوصية، يحيلك أن تغدو أبداً شاعراً متجددا في زمن الإبداع. إن جلّ التجديدات التي منيت بها القصيدة العربية عبر تاريخها بقيت تتعلق بالشكل، أي بالمبنى، دون المضمون، أي المعنى، أو العكس. فيما الحداثة تقتضي الانزياح عن أساليب التعبير المألوفة وأشكال التفكير السائدة التي أنتجتها. لكن الاستلهام بالمضيء في تراثنا، سيما الصوفي، أمر ملح على فعل الحداثة، طالما لا تعني الحداثة إلا القطيعة مع الماضي الثابت والدخول إلى المستقبل المتحرك.

* أعلنت في ديوانك ( آلاء ) التصدي لهزيمة الطفولة والأنوثة معاً إذ يهربان بجسديهما من عالمك المنطفئ موتاً واشتياقاً لخلق عالمٍ آخر, غير مرئي من البراءة والانعتاق.. هل ترى الان انك أوصلت فعلا ما تريده في هذا الديوان..؟

** لم أقترح ديوان " آلاء " بدء ً بوصفه صوغاً لعالم طفلي ّ، بل جعل الحاسة الطفلية أداة لاكتشاف الأشياء والرؤى والكشف عنها. البراءة هنا ليست توصيفاً للطفولة بل ملمساً ومسلكاً لها في آن. كما أنني لم أستدرج الطفولة إلا بكونها تكثيفاً للطاقة والحلول الإنسانيين في عالم يفقد ذاته بانشغالاته عن ذاته . فالطفولة هنا ليست جسداً تقيم فيه روح تتقنع بالبراءة ، بل هي روح تتحرك في جسد تغدو معه الطفولة ، وبه ، تجلياً للروح الإنساني طُرّاً ، اللاهث في عالم مليء بالقبح لخلق جمالياته . فالجمال هنا لا يكتفي بإنقاذ العالم بل ينشغل بخلقه . والقصيدة – الديوان هنا تكتشف العالم بإيقاعات عالمها الخصوصي .
لكن اقترابي من الطفولة والانعتاق في مواجهة القبح والموت ليس عودة للطفولة على طريقة شعراء الرومانسية، بل التماساً للكشف عن تجلياتها فيما لم يكاشف بعد في الذات الإنسانية. وهنا تتجلى الطفولة في المسافة الفاصلة بين الإنسان و نفسه، بين حاسته وغريزته..الخ. لكن نقاداً بأعينهم تعاطوا مع الديوان هذه بتصورات معرفية لا برؤى فلسفية .
* تتهم قصيدتك بالغموض والرمزية المكثفة..؟
** طالما لم أسع، ولن أطمح، أن أكون شاعراً جماهيرياً، فلا بد أنني أتقدم بالنص لا إلى العام الموطوء بوقع الخطابة الشعرية، بل إلى الخاص الباحث عن إيقاعات الكتابة الشعرية. (مع أني كثيراً ما لمست أن العام ينحاز إلى ما أكتب في أمسيات ومهرجانات ولقاءات كثيرة، لكني لا أنحاز لبناء أية مصالحة مع القارئ على حساب النص، فهذه خيانة للجمال والفن معاً. والشاعر لا يخون قصيدته).
ولطالما أن التنظيرات النقدية قدمت الغموض كأحد عناصر التخييل الرؤيوي فما أسميته اتهاماً هو إقرار بشعرية عالية، وكذا ما خص الرمزية، فيما تعتبر الكثافة عبقرية اللغة الشعرية.
* وماذا عن طغيان الهم الفكري والفلسفي في معظم قصائدك..؟
** لست من الشعراء الذين يكتبون بأغراض شعرية، ولا أؤمن أن الشعر الذي يكتب بالغرض الشعري شعر أصلاً. وإذا كان الشعر القديم قد عني بالغزل والمديح والرثاء.. الخ، فجل الشعر المعاصر يقترب من شعر الغرض القديم، حتى وإن اختلفت صورة الغرض، وتقنعت أنا الشاعر بالشكل الشعري المعاصر. فإذا كانت أنا الشاعر الجاهلي تهجو أعداء القبيلة، والشاعر الإسلامي الكفار، مثالاً لا حصراً، فالشاعر المعاصر يهجو الإسرائيليين أو الأنظمة... لم يتغير سوى الشكل في جوهر الأمر. وكذا المديح والغزل والرثاء... ثم أليست المباشرة في قصائد المعاصر الشعري أشبه بالخطابة في قصائد السلف الشعري...
رأي صادم لا شك، لأن الحداثة أصلاً صدام مع التقليد، وهدم لبناه ومعناه.
وسأعترف لك أننا لا نملك علم جمال شعري عربي لأننا أبعد ما نكون عن الفلسفة. وأقصد بالفلسفة معناها الكلاسيكي بوصفها أم العلوم بما فيها علم الجمال، وأحيلك إلى أن أول من عالج أشكال الإبداع هو أرسطو في "فن الشعر" في القرن الرابع قبل الميلاد، فيما نحن سحلنا الفلاسفة، وأقطاب الصوفيين على رأسهم مثالاً لا حصراً، وأحرقنا كتبهم..
ألا يعتبر الحب، الموت، القتل، الخيانة، الوطن، والذات.. مفردات تمس فلسفة الوجود ويتجمهر فيها. كيف يمكن أن تتحول إلى كلمات لا طائل منها في الشعر في حين يتجسد فيها سؤال المعرفة؟.
ثم، إننا كشعراء فلسطينيين عجزنا، كما أقول دائماً، عن كتابة تراجيديانا أو أوديستنا، والسر أن شعرنا بعيد عن الفلسفة. ومن هنا حين أقول أن ديواني "قيامة الأسوار"، و"رعاة السماء، رعاة الدفلى" يقدم مشروعاً جمالياً في مواجهة مشروع المحو والقتل الوحشي الإسرائيلي، يكثف في رؤيته تجليات التاريخ والثقافات وأبعاد المكان الفلسطيني، فأنا أنحاز للشعر بوصفه دالاً برؤيا جمالية فلسفية.

* تقول عن مجموعة (موتى يعدون الجنازة ) حاولت ان أهجو الأب لحظة موته وأرثي ذاتي المتوترة بفيض عتمته اللانهائية ..وأرصد إحداثيات جندي يشبهني يختار الانتحار قبل هزيمته بحرب لا شأن له بها..هل يمكن ايضاح هذه الرؤية..؟
** في " موتى يعدون الجنازة"، ثمة مقترحات جمالية طارئة جديدة على الشعرية، وهذا ما تم الكشف عنه أكثر لدى ترجمة جل قصائده إلى الروسية وسواها، وتلقف النقد لها بأدوات مختلفة. نصوص شعرية تفترق عن السائد الشعري مبنى ومعنى. هكذا رأى نقاد كثيرون. ورأى نقاد آخرون لدى ترجمة جل قصائده أنني جعلت من تفاصيلي الخاصة عالماً جمالياً إنسانياً. من هنا بدأت أقبض على رؤيا أن الفلسطيني مسيح هذا العصر على أعلى الصلبان، فآلامه ليست دربا ًلممارسة السياحة بل تكثيفاً لجوهر انتصار الألم على السكين، وبقاء صورة الضحية أجمل من ملامح قاتلها في مرآة التاريخ الإنساني، ومسألة صلبه ليست جريمة عابرة بل بدء عصر جديد يكتب الإنسان والعالم برؤيا جديدة أبدية. هذا هو حال الفلسطيني المكثف بي . وهجائي لأبي لحظة موته هو رثاء لذاتي بتخليه عني وهو الذي حمّلني الروح والألم الفلسطيني، وهو أشبه بمقولة المسيح على الصليب: " يا أبتي ، لماذا تركتني وحيداً "، وانتحار جندي يشبهني، وأنا الذي منعت من دخول سوريا سنوات لرفضي الخدمة في جيش التحرير الفلسطيني المأمور بها، لأنه يرى أن استشهاده في أية حرب مهزومة أصلاُ لن يتعدى بقاءه وساماً على صدر القائد الرمز، ألا يشبه هذا أيضاً ذهاب المسيح إلى صلبه ليكتب العهد الجديد برفضه التخلي عن رسالته، تماماً كاحتضان لوركا للحظة إعدامه بابتسامة ظلت تطارد قاتله .. وكذا قضية الحب حين تصبح الخيانة أحد صورها، لكني في الديوان أقول: " أنت تخونيني مع زوجك " لأن الحب هو الحقيقة فيما الخيانة ليست الحق إلا لمن يمتلك حقيقة الحب .. الخ . قطبا الفن الأعظمان: الحب والموت في موتى يعدون الجنازة موقفان رؤيويان وليسا بعدين لحاسة أو فكرة أو معنى مألوف .
* الملفت في شعرك عدم الإقحام للصوت الفلسطيني بشكل فجٍّ ومتسرع.. وعدم غيابه في ظل البوح والذاتية التي تحملها قصائدك..؟
** لا شعرية في غياب الذات الشاعرة. الصوت الشعري يتحول إلى صدى، فيما الذات تبقى مرآة الرؤيا. القصيدة الفلسطينية في جل نماذجها، بل والأدب الفلسطيني، منشغل بالخطاب كرسالة، لا برسالة الكتابة، وموطوء بوصف الأنا وعالمها، لا بجعل هذه الذات عالماً يكتب تاريخه بإيقاعات فن يخلد بها ويخلدها. معظم هذه الأعمال تبقى على حائط جدار التاريخ. لم نكتب بعد الأوديسة الفلسطينية. أليس هذا نكبة أخرى أكثر تراجيدية من نكبة فلسطين؟ تماماً كما نسمي من يدخل الأعداء مخدع تاريخنا برجل سلام الشجعان! نحتفل، لا نزال، بهذه الأسماء كما نحتفل بذكرى الشهداء أو الهزائم، لا كمبدعين خلاقين. نحن لم نعد السؤال إلى بوابة المعرفة بعد، ولم نقرأ هؤلاء برؤيا نقدية أكاديمية ممنهجة، فهم مقدسون وستتهم بالخيانة إن مسست ما كتبوا بنقد لا يليق بيقينية الجواب المؤدلج. باسم فلسطين أصبح هؤلاء كتاب واجهات، ومنهم من ترجمت أعمالهم إلى لغات حية وميتة باسمها، فأساءوا لها قضية وشعباً. وكثيراً ما أواجه في أوربا في ندوات ومهرجانات وأمسيات بسؤال وجودي يصوغه العارفون بحركة الإبداع العالمي: أين الإنساني في شعركم وأدبكم؟ لغة أدبكم تفح برائحة الدم، وأبطال روايتكم يمضون إلى حتفهم بلا حياة..الخ. (أستثني من هذا بعض مبدعين فلسطينيين ترجموا إلى لغات أخرى).
إذا كان الالتزام بالقضية يمحو الذات الكاتبة، فلا شأن لي به. الذات هي القضية. وأتساءل: أيهما أفاد القضية محمود درويش، في كتاباته المتأخرة التي قدمته شاعراً إنسانياً، أم كلّ ما ترجم من أدب فلسطيني يصورنا أبطالاً من كلام عابر في الثقافات الأخرى؟. من يقرأ الآن رواية "الأم" لغوركي التي اعتبرت من أدب الواقعية الاشتراكية أم الالتزام (ترجمها الاتحاد السوفيتي إلى كل اللغات). أعتقد أن الالتزام هو جعل الذات قضية إنسانية، والقضية مسألة إنسانية كذات تتفاعل مع الذوات الإنسانية الأخرى، لا كتلة مستقلة عنها ولا تشبهها. ولا يمكن لمفهوم الالتزام أن يسيّد شعراً ما لا علاقة له بالفن الإبداعي. الفن الجميل يجعل القضية أكثر جمالية، ويحرض الإنسانية على احتضانها.

* في (رعاة السماء رعاة الدفلى ) جاء الصوت الشعري لـ" يعلو بالألم الفلسطيني الجمعي, لكنه لا يقيم مصالحة مع الذائقية الجمعية, ولا يستظل في مرايا الخطاب الفلسطيني السائد"..؟
** بدء ، الديوان مهدى قُدّاساً لمديح ظل محمود درويش العالي. وهو يؤرخ لتجربة الألم لفلسطيني مطلع هذا القرن . لكنه يقدم ، في جزئه الأول، اقتراحاً جديداً جمالياً لشكل القصيدة عبر كسر الصفحتين المتقابلتين بحيث يتمكن القارئ من قراءة الصفحة أو الصفحتين المتقابلتين، ويشارك في كتابتهما وفق مقتضيات ثقافته الشعرية. كما يخلق علاقة تناصية بين متن النص وهامشه ، وهي استكمال لمشروع كتابة الرواية الفلسطينية الإنسانية في مواجهة الحكاية العدوة . لكن الألم الفلسطيني في الديوان ليس نتاج الجرح القادم من الآخر/ العدو بل من الذات / الأنا الجمعي. فما يزال من أدخل الأعداء مخادع نسائنا، يتفاوض على ألمنا مع قاتلنا وفي أنخابهما دمنا ! فلا طاقة للجسد / الجغرافيا، الذات / التاريخ أن تحتمل هذا الألم أو تتصالح معه، ليس كونه طارئاً أو عميقاً، بل لأنه ألم يتحرك بالروح إلى أعلى درجات الوجع الإنساني ّالأبديّ. هنا تتكشف الرؤيا فإذا كانت فلسطين / جسدا ً / جغرافيا تحولت من أرض محتلة إلى متنازع عليها، فإن الفلسطيني / الإنسان / اللاجئ هو الروح الذي لن يحل به السلام، أو يهب السلام ، إلا بأمن جسده ، بما في ذلك الحجارة التي لم تدل على أثر العابرين والهواء الذي أفسدته رئاتهم ..الخ . وهنا يصبح الألم معادلاً موضوعيا ً وجمالياً للحلم . وتصبح العودة في الحلم ليست منقوصة، كعودتي إلى غزة مثلاً. العودة المنقوصة جعلت حلمي بالعودة إلى الجسد كله منقوصاً، وألمي انشغال روحي بالجسد كله دون مصالحة أو تقنّع .
والافتراق الذي ينحاز إليه الديوان أنه يعلن القطيعة مع المقترح السياسي المقدم ، ويرتطم بمقدمات الذائقية العامة القائمة على إدخال فكرتها الأولى، وحلمها الأول بألميهما الأوليين، إلى حظيرة تاريخ لا يكتبونه، بل يكتب لهم ، كنص شعري، أو رؤية سياسية، أو معنى وجودي .

* في ديوان ( قيامة الأسوار) تطرقت لـ " آثار العابرين والمقيمين في المكان المقدس تعميقاً لرؤيا رفض الرواية العدوة بشكل مطلق"..؟
** ديوان " قيامة الأسوار " يؤصل للجسد والروح الفلسطيني في رواية المكان الفلسطيني المقدس، مسيحياً وإسلامياً . فيما يبقى الإسرائيلي تحت طائلة الطارئ ، وحكايته مزعومة إن لم تكن ملفقة ومعزولة، وإلا لماذا ينتسب المسيحي والإسلامي لفلسطين، فيما هو يصر على كونه إسرائيلياً. وطالما لم يجد الإسرائيلي ظلاً، عبر تاريخ المكان، له على حجر ما، فسيبقى مؤقتاً في رواية الجسد والروح الفلسطيني، ولا يدل عليه إلا ألمهما.
هكذا، يستقدم الديوان أسماء وتواريخ الرواية المسيحية الإسلامية الإنسانية، الروحية القائمة على خلق الجمال أصلاً، نقيضاً للحكاية الإسرائيلية المؤسسة على محو الجسد والروح الفلسطيني معاً لتكريس عبور ظل رب جبد العهد القديم ..وطالما أن الرواية الفلسطينية تكثف في ذاتها الروحي السماوي، مقابل الوحشي الأرضي في السردية الإسرائيلية، في المكان الفلسطيني المقدس مجسدا ً بالقدس ( أورسالم - اسم الإله حامي المدينة لدى الكنعانيين والذي ظهر في وثائق الفراعنة 2000 ق. م ووجودها قبل هذا الظهور بقرنين أيضاً، أو مدينة السلام أو يبوس نسبة لملك السلام ملكي صادق اليبوسي الذي بنى قلعنها، لكن اسم " اورشليم " لم يظهر إلى في سفر يشوع التوراتي، ثم سماها العبرانيون مدينة داوود التي فتحها بحرب دموية مع اليبوسيين حوالي 1000 قبل الميلاد . وبين السبي البابلي للهود بقيادة نبوخذ نصر الذي دمر هيكل سليمان وسيطرة الرومان على حوض المتوسط الذين اسموا المدينة إيليا ( وهو الإسم الذي استخدمه عمر بن الخطاب في عهدته ) يغيب أثرهم عن رواية المكان .
في هذا المتن التاريخي يصبح أثرهم هامشيا ً، حين أستقدم الأسماء والوقائع وأجسد بلغة لا تشبه إلا ذاتها كونها تحمل روح ذاك الإنسان وذاك التاريخ بامتداداته وتأويلاته ليتعدد المكان بصلة رحم مع الروح السماوي / الإنساني وقطيعة مع الطارئ على أبديته، العابر في رطنة لم تنتبه لها حجارة الأرض المقدسة أو هواؤها أو سماؤها. وهنا يتجسد الألم بالحلم، والحلم بالألم : الروح / السماوي هو صورة الضحية في مرايا القاتل غائب الملامح والسيرة ..