[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
لا أعتقد أن الموقنين كانوا ينتظرون تأكيدات الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر على أن الولايات المتحدة غزت العراق، لكي يتوثق من الأدوار الكارثية والهدامة التي لعبتها بلاده في العصر الحديث مدفوعة بنشوة الانتصار على خصمها اللدود والتاريخي الاتحاد السوفيتي وتربعها عرش قيادة العالم، ومندفعة بجنون القوة لتهديد الأمن والسلم الدوليين، ونشر النزاعات والحروب وإثارة الفتن بين الدول وحتى بين مكونات المجتمع في الدولة الواحدة، وتغذية النزعات الانفصالية، وإسقاط أنظمة دول مستقرة وآمنة تحت شعارات كاذبة من قبيل "دعم الحرية وتحقيق الديمقراطية وحماية المدنيين والدفاع عن حقوق الإنسان".
الرئيس الأميركي التاسع والثلاثون قال في تصريح لمجلة "سالون" Salon الإلكترونية إن العالم يعتبر الولايات المتحدة الأميركية "أهم مُشعِل للحروب".
وذكر كارتر الذي تحدث للمجلة بمناسبة صدور كتابه الجديد بعنوان "الدعوة إلى العمل" أن الولايات المتحدة اشتركت في 10 أو 15 نزاعًا مسلحًا على أقل تقدير.
وجاء في الكتاب: إن الولايات المتحدة اشتركت في النزاعات المسلحة واستخدمت القوة لفض المنازعات أكثر من أي دولة أخرى.
وذكَّره مندوب المجلة بأن وزير الخارجية الأميركي الحالي جون كيري قال، في إشارة إلى تلبية روسيا لرغبة أهالي شبه جزيرة القرم في الانضمام إلى روسيا: إن غزو البلدان الأخرى أمر غير جائز في القرن الحادي والعشرين. فقال كارتر: "أظن أن الكثيرين منا قالوا لأنفسهم وقتذاك إننا فعلنا هذا في العراق في القرن الحادي والعشرين".
لقد تعودنا من الساسة الغربيين أن لا تصدر منهم الاعترافات بالأدوار السلبية والكارثية لبلدانهم إلا بعد خراب مالطا وإنجاز مهمتهم وتحقيق أهدافهم التي أرادوها، فإن يصدر مثل هذا الاعتراف على لسان رئيس أميركي أسبق لعب أدوارًا مدمرةً لا تزال تبعاتها تفعل مفاعيلها في المنطقة جغرافيًّا وجيوسياسيًّا، صحيح أن له رمزيته ودلالته، غير أنه في هذا الوقت بالذات لا يقدم ولا يؤخر بالنسبة إلى ما آلت إليه الأوضاع المأساوية في العراق الذي رُكِّبت مؤامرة غزوه واحتلاله على كذبة تاريخية لا يزال صداها يتردد على المسامع وتلمع حروفها أمام المرأى وتلوكها الألسن، ألا وهي كذبة أسلحة الدمار الشامل التي استطاع الغزاة المحتلون أن يصيبوا عقل المسؤول العربي بالهوس ويصيبوا نفسه بالهواجس المصطنعة من الخوف والقلق من تلك الأسلحة بأنها غدت خطرًا لا يهدد فقط أوروبا في غضون خمس وأربعين دقيقة ـ حسب الفرية التي افتراها المدلس الأكبر توني بلير رئيس وزراء بريطانيا المستقيل ـ وإنما يهدد جيران العراق، في حين كان المقصود بالجيران هو كيان الاحتلال الصهيوني وليس بالجيران الحقيقيين الذين لم يعطوا الجيرة حقها والذين حين خف عنهم الهوس والخوف قالوا قولتهم الشهيرة "إن أميركا سلمت العراق لإيران على طبق من ذهب".
اليوم وفي ظل مؤامرة ما سمي بـ"الربيع العربي" يتكشف المزيد من الحقائق بأن غزو العراق لم يكن سوى الرقم واحد في المشروع الصهيو ـ أميركي لإعادة رسم خريطة المنطقة لضمان التفوق الصهيوني وإعلان كيان الاحتلال الصهيوني شرطيًّا عليها، حيث رُكِّبت مؤامرة المشروع من ركنين أساسيين هما الفوضى والإرهاب والاقتتال والتناحر الطائفي لبعثرة دول المنطقة وتفتيتها إلى كيانات قائمة على أساس طائفي غير قابلة للتعايش فيما بينها لاحقًا؛ بل سيتولى شرطي المنطقة متابعة عملية سكب الزيت على نار الطائفية المشتعلة كلما دعت الحاجة إلى ذلك، بما يضمن الانشغال الداخلي لاستمرار تفوقه.
ولذلك فإن تحول العراق إلى الفوضى وساحة لتصفية الحسابات الشخصية والثأرات القديمة، والاقتتال الطائفي، سار وفق ما خطط له المتآمرون منذ البداية، ويسير الآن في بقية دول مؤامرة "الربيع" من سوريا ولبنان إلى ليبيا ومصر واليمن وتونس، حيث استشراء الإرهاب والفوضى والقتل على الهوية الطائفية والمذهبية، وبذات الأدوات الفاعلة والداعمة والوكيلة والعميلة للقوى الامبريالية الاستعمارية الغربية. وبينما يستمر ضخ الأموال العربية المشبوهة والعميلة والأسلحة الداعمة للإرهاب ويتواصل جلب الإرهابيين والمرتزقة والتكفيريين من أصقاع العالم، تستمر أبواق القوى الامبريالية الاستعمارية في ترويج الدعايات الكاذبة لتزيين فوضاها وإرهابها، باسم "دعم شعوب الدول المكتوية بلظى إرهابهم وتحريرها من الديكتاتورية وزرع الديمقراطية وتأسيس حضارة جديدة أساسها العدل والمساواة. وأي عقل وأي منطق يقبل مثل هذه الدعايات الزائفة ويصدقها بأن مستعمِرًا امبرياليًّا مجرمًا مستبيحًا لكل الحرمات خاويًا من القيم والمثل والمبادئ يسمح بتبلور مهددات أو ظروف تهدد وجوده الاستعماري كإقامة ممالك أو جمهوريات أو حضارات قائمة على الديمقراطية والعدل والمساواة.
إذن، العراق لم يكن سوى الطلقة الأولى في مدفع التآمر الذي ظل الاستعمار بقديمه وجديده يوجهه ضد المنطقة لإعادة رسم خريطتها وفق آليات جديدة تقوم على تقاسم الثروات، وتتخلى عن آلية تقاسم الجغرافيا ليؤمِّن (أي الاستعمار) له منصة متقدمة تمكنه من وضع الحبال والمشانق على أعناق دول المنطقة للإمساك بها. وما أكده اليوم جيمي كارتر عن غزو بلاده للعراق، حتمًا سيأتي يوم آخر يؤرخ أو يصرح فيه غربيون آخرون ليؤكدوا أهداف التدخلات السافرة للقوى الغربية الاستعمارية ودعمها للفوضى والإرهاب وحقيقة نياتها ومخططاتها في مؤامرة "الربيع العربي".