إعداد/علي بن عوض الشيباني
أيها القراء الأعزاء: ما دعا رسول الله )صلى الله عليه وسلم( أحداً إلي الإسلام إلا كانت له كبوة إلا أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فإنه لم يتلعثم، وفي يوم غضب أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لأمر حدث بينه وبين أحد الصحابة فغضب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لغضبه ورؤي الغضب في وجهه وقال:(إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي) ـ رواه البخاري عن أبي الدرداء .
إذا كان الفضل في ديننا لمن صدق لا لمن سبق، فإن أبا بكر سبق وصدق، وما من باب فيه لله طاعة ورضا ومحبة إلا وترى أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ أول المسارعين إليه، روى مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:(من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله: ما اجتمعن في أمريء إلا دخل الجنة).
السبق في الدين له شأن عظيم عند الله في الميزان، ولا يكون هناك سبق للخيرات والطاعات إلا إذا كان القلب بصيراً يري بنور الإيمان عِظَم الأجر والثواب، فلا يبالي بالمشقة والتعب لرضا محبوبه ونيل رضاه.
والحياة كلها ليست نزهة، وإنما هي ميدان صبر ومجاهدة وتضحية، ومن لم يمرن نفسه علي صعود الجبال عاش طيلة حياته بين الحفر.
في ضاحية من ضواحي المدينة كانت هناك امرأة عجوز عمياء كبيرة تعيش وحدها وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يتعاهدها كل حين، وكلما ذهب إليها وجد من سبقه إليها فقضى لها حوائجها، فتربص لينظر من هو، فإذا هو أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ فسألها ماذا يفعل هذا الرجل عندك؟ قالت: جزاه الله خيراً يقم البيت ويطعمني ويقضي حاجتي، فقال عمر: ما سبقت أبا بكر إلي خير قطٍ إلا سبقني إليه .
قل هو التواضع. قل هو الإخلاص. قل هو التجرد. قل هو تربية النفس وتزكية الفؤاد. إنها عجوز مقعدة فلا يطمع فيها أحد، وهي عمياء لا ترى من يخدمها حتى تذكره بالخير وتعدد فضائله ومناقبه ليعلمه الناس، ولكن أبى الله إلا أن ينتشر عبير الإخلاص لله، فتتعلم الأمة كلها عبر أجيالها ما هو التجرد لله؟ ما هي حلاوة الإخلاص؟ ما هي قيمة السبق في الدين؟.
رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) رؤيا قصها علي أصحابه ـ ورؤيا الأنبياء حق وصورة من صور الوحي ـ روي البخاري ومسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم):(عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)، وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فقال:(ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع اللَّه أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع اللَّه أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة).
لماذا دعا لعكاشة ولم يدع للرجل الآخر؟ الجنة ليست ضيقة علي الرجل الثاني، والرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) رحيم بأمته لا يبخل بالدعاء علي رجل من أصحابه طلب منه الدعاء، ولكنه أراد أن يعلمهم فضيلة السبق في الدين والمسارعة إلي الخيرات، فليس من أسرع كمن أبطأ.
أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ كان شغوفا بطلب العلم، مسارعاً إلي كل باب يفتحه الله عليه لينهل من نور النبوة فكان بحق راوية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
روى الحاكم وغيره أن رجلاً جاء زيد بن ثابت فسأله عن شيء، فقال له زيد: عليك بأبي هريرة فإنه بينا أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله تعالى ونذكر ربنا، خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى جلس إلينا، قال: فجلس وسكتنا، فقال: عودوا للذي كنتم فيه، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة وجعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يؤمن على دعائنا، قال: ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك مثل الذي سألك صاحباي هذان، وأسألك علما لا يُنسى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): آمين، فقلنا: يا رسول الله، ونحن نسأل الله علما لا ينسى، فقال: سبقكما بها الدوسي، وكان أبو هريرة كثيراً ما يحمد الله علي سابغ نعمته عليه فيدعو الله يردد قائلاً :الحمد لله الذي هدى أبا هريرة للإسلام، الحمد لله الذي علَّم أبا هريرة القرآن، الحمد لله الذي رزق أبا هريرة صحبة رسول الله.
كم في القرآن من نداء وأمر وترغيب للمسارعة والسبق في الخيرات : (وسارعوا إلي مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين)، (فاستبقوا الخيرات)، (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)، (ففروا إلي الله إني لكم منه نذير مبين)، (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار).
وقال في شأن زكريا ـ عليه السلام:(وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين، فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين).
والسؤال: هل أغلق الباب الآن فلم يعد هناك نصيب لمن يأتي بعد من هذه الأمة في فضيلة السبق؟
والجواب: يحتاج إلى تأمل في مواضع من سورة الواقعة حينما تحدث القرآن عن مراتب أهل الجنة أن منهم سابقون مقربون، ومنهم أصحاب اليمين، (والسابقون السابقون، أولئك المقربون، ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين).
ولم يغلق ربنا باب الرضوان لمن أراد السبق في الخيرات ففتح الباب لمن تابع بإحسان:(والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم).