إعداد ـ محمد عبدالظاهر عبيدو
أيها القراء الأعزاء: إن من عظيم الفقه وسداد البصيرة إدراكَ مقاصد العبادات التي لأجلها شرعها الله سبحانه، والسموَّ عن أدائها صوراً لا روح فيها ولا حياة، كما قال الله ـ جل وعلا:(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(المائدة)، وقال أيضاً في القرابين:(لنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)(الحج ـ 37) فإدراك مثل هذه المقاصد سبيل للصبر على مكابدة الطاعة، وتحمّلِ مشاقِّها، وأدائِها بتوأدة وإتقان وفق ما شرع الله سبحانه، ومن ثمّ تيسرِها، واستعذابِ نَصَبِها، وذوقِ طعمها، والتلذذِ بها، ليظهرَ بعد ذلك أثرُها النافعُ على فاعلها، ويكونَ أحرى ما يكون قبولُها.
أيها القراء الكرام: وفي هذه الأيام يتوافد ضيوف الرحمن إلى بيته الحرام من كل فجٍّ زرافات ووحداناً؛ لأداء مناسك الحج يزدلفون إلى ربهم ويبغون رضاه، ولتلك العبادة معانٍ ومقاصد يجمل الوقوف معها واصطحابها؛ لتحقق الثمرة، ولا يضيعَ الجهد هباءً. فمن تلك المعاني والمقاصد إقامة ذكر الله الذي انفرد بالكِبَر الذي لا مزيد عليه (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)(العنكبوت)، ويقول الله تعالى:(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ معلومات) (الحج ـ 28), ويقول سبحانه:(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) (البقرة ـ 203)، ويقول الرسول (صلى الله عليه وسلم):(إنما جعل الطواف بالبيت والصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى وحده) ـ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. وذلك حادٍ كلَّ حاج ألا يضيع وقت نسكه بغير ذكر الله تعالى قولاً وفعلاً.
ومن معاني الحج الكبرى تحقيق الانقياد للشرع المطهر واتباعه، فكثير من أفعال الحج غير معقولة المعنى، كالطواف والسعي وأعدادهما، والرمي وعدده وتكرره، وتقبيل الحجر، والوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة ومنى، ومع ذلك تُفعل؛ اتباعاً لأمر الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، لا غير، روى البخاري في صحيحه أَنَّ عُمَرَ ابْنَ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ لِلرُّكْنِ (الحجر الأسود):(أَمَا وَاللَّهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ)، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: (فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ! إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ المُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ)، ثُمَّ قَالَ:(شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلاَ نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ)، فالحج تربية مكثفة لتحقيق ذلك الاتباع ولو لم تَبِنْ حكمة التشريع، وذلك مقتضى العبودية والرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد (صلى الله عليه وسلم) نبياً ورسولاً.
من معاني ومقاصد الحج العظيمة تحقيق التقوى، يقول الله سبحانه:(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)(البقرة ـ 197).
ومن سبل تحقيق التقوى في الحج تعظيم شعائره وحرماته، وذلك ما تفصح عنه أسئلة الحجاج المتكررة للمفتين، كالسؤال عن حكم سقوط شعرة منه، أو نقص حصاة في رمي، أو كسر غصن شجر (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)(الحج ـ 33)، وبالحج تكفّر الذنوب، وذلك التكفير من أعظم خصال التقوى. يقول النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ:(مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" رواه البخاري. وتفصيل تلك المغفرة بيّنها رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بقوله:(إنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفاً ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة ومحا عنك خطية، وأما ركعتاك بعد الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل ـ عليه السلام. وأما طوافك بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة يقول:(عبادي جاؤوني شعثاً من كل فج عميق يرجون جنتي فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل أو كقطر المطر أو كزبد البحر لغفرتها أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له)، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمذخور لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة ويمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما تستقبل فقد غفر لك ما مضى" رواه البزار وحسنه الألباني، وفي الحج استشعار مراقبة الله واستحضار قربه، وتلك خصيصة أهل التقى، فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) للشاب الذي نظر إلى امرأة يوم عرفة:"ابْنَ أَخِي، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ، وَبَصَرَهُ، وَلِسَانَهُ، غُفِرَ لَهُ" رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه. وفي الحج ذكرى الآخرة؛ إذ به فراق الأهل والموطن والمال وارتداء لوضيع الثياب وفيه مزدحم للخلق، وذكر الآخرة من صفات المتقين.
ومن معاني و مقاصد الحج السامية تربية النفوس على الأخلاق الفاضلة فقد جعل الله تكفير الحج للذنوب مشروطاً بحسن الخلق، كما قال رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ) ـ رواه البخاري ومسلم، بل إن برَّ الحج الذي ثوابه الجنة لا يكون إلا بحسن الخلق، يقول رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، قيل: وما بره؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام) ـ رواه أحمد وحسنه المنذري.
ومن أهم معاني مقاصد الحج العظمى إظهار وحدة المسلمين وائتلافهم فربهم واحد، ورسولهم واحد، وشعارهم واحد، وموقفهم واحد، ومنسكهم واحد، تلاشت في تلك الشعيرة اختلاف البلدان والأعراق واللغات حتى غدا الحج شعار وحدة المسلمين، والتعارف والتراحم بينهم، والتسامي عن كل رباط عارض رباط الدين وآصرته.
* إمام جامع محمد الأمين