العدالة في المقاصد والممارسة .. مسألة الخير العام من منظور متجدد
(6 ـ 7)

مقصد العدل يعتبر من المقاصد الأساسية في التشريع الاقتصادي الإسلامي، ويتجلى أثره في سياسية الإنفاق العام

الإسلام لم يطلق يد الفرد في استعمال ملكه كيفما يشاء، بل وضع عليها القيود اللازمة لتوجيهها إلى الصالح العام والخاص

قراءة ـ علي بن صالح السليمي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جاءت ندوة تطور العلوم الفقهية في عُمان من خلال عنوانها:(فقه العصر .. مناهج التجديد الديني والفقهي) والتي عقدت خلال الفترة من 15 إلى 18 جمادى الأولى 1436هـ، الموافق 5 إلى 8 ابريل 2015م في نسختها الحادية عشرة من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بتوجيهات سامية من حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
ومن ضمن ما قدم خلال الندوة من بحوث وأوراق عمل كانت لنا هذه القراءة في بحث بعنوان:(العدالة في المقاصد والممارسة .. مسألة الخير العام من منظور متجدد) للأستاذ الدكتور/ فايز محمد حسين محمد ـ أستاذ ورئيس قسم فلسفة القانون بكلية الحقوق من جامعة الإسكندرية بمصر.
يقول الباحث: وطبقاً لأسس الاقتصاد الإسلامي، يجب على الدولة والأفراد تتجنب كل الإشكال التي تضر بالمصلحة العامة. والإسلام يلزم الدولة بالمسؤولية عن إعالة كل مواطنيها. إذ تشير حقوق الله في الشريعة الإسلامية إلى كل ما ينطوي على مصلحة المجتمع ككل. إذ يشدد الإسلام على التوزيع العادل والمنصف للموارد وتلبية احتياجات الأشخاص الضعفاء اقتصادياً كجزء من العبادة والإيمان ويحض المسلمين على الربط بين تقواهم والحقائق الاجتماعية، إذ يجب أن يعاملوا كجزء من العائلة الإنسانية الموسعة، ويتأسس الاقتصاد الإسلامي على ركائز ودعائم ثابتة لا تتغير ولا تتبدل مع الزمان. وهو يتفق مع مصالح البشر في كل زمان ومكان، ما دام باب الاجتهاد مفتوحاً، لاستنباط الأحكام المختلفة الحاجات الناس المتجددة من الأسس الثابتة للاقتصاد ذات المرونة والقابلية للتكيف مع المصلحة العامة.
موضحاً بأن مقصد العدل يعتبر من المقاصد الأساسية في التشريع الاقتصادي الإسلامي، ويتجلى أثره في سياسية الإنفاق العام، إذ يجب مراعاة المساواة وضرورة مراعاة الأحوال الاقتصادية والظروف الاجتماعية والإنفاق العام في الدولة الإسلامية يكفل للمسلم وغير المسلم، الحياة الكريمة والأمن، ويضمن حسن توزيع الثروة والتكافل الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، وطبقاً لفلسفة التشريع الاقتصادي الإسلامي، فيجب أن تراعي السياسيات الاقتصادية في الإسلام مسألة التوفيق بين مصلحة كل من الفرد والمجتمع، وتحديد حالات تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي بما يكفل التوافق بين المصلحتين، ومنع إلحاق الضرر بالفرد وبالمجتمع من المبادئ الأساسية في النظام الاقتصادي الإسلامي، حيث يقوم التبادل ـ في النظام الاقتصادي الإسلامي ـ على أساس الجمع بين المصلحتين وتطبيقاً لذلك يمنع الاحتكار ويجوز التسعير، حيث يعمل الإسلام على كفالة الحد الأدنى اللائق من مستوى المعيشة لكافة أفراد المجتمع من خلال جهود التنمية وثمارها المتحققة وفي حدود إمكانيات المجتمع وظروفه حيث يقول عمر بن الخطاب (ما أحد أحق بمال الله من أحد وما أنا بأحق به من أحد، والله ما من أحد من الناس إلا وله في هذا المال نصيب فالرجل وبلاؤه والرجل وقومه والرجل وحاجته، والله لئن امتد بي العمر ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال وهو في مكانه يرعى الغنم).
وقال: ان مصادر المالية الإسلامية تتعدد لسد نفقات المصالح العامة، وهى: الزكاة في الأموال، وعروض التجارة والوائم والزرع والتجار، وضريبة الأراضي الزراعية من الخراج والعشر ونصف العشر، و ضريبة الأشخاص التي تؤخذ من أهل الكتاب وهي الجزية. والعشور: وهي الرسوم التي تؤخذ على الواردات إلى البلاد الإسلامية والصادرات منها. وخمس الغنائم، وخمس ما يعتر عليه من الركاز، والمعاون. وتركة من لا وارث له أصلا أو لا وارث له غير أحد الزوجين ومال اللقطة، وكل ما لم يعرف له مالك، وترتكز فلسفة الموارد المالية السابقة على توفير ما تتطلبه المصالح العامة من النفقات وتأمين أرباب الأموال على أنفسهم وأموالهم، وتحقيق أقصي ما تقضي به الوحدة الاجتماعية من التضامن والتعاون، وهذه أسس تتقبل رعاية كل المصالح وتتفق وقواعد العدل.
مشيراً الى ان من القواعد المقررة أن كل ما يعد من موارد الدولة المالية فهو حق للأمة لا يصرف إلا في مصالحها العامة، وقد بيّن الإسلام أبواب صرف الإيراد، حيث بين أوجه صرف الزكاة وخمس الغنائم وسكت عن بيان مصارف باقي الأبواب، ليكون ولاة الأمور في سعة في صرفها في سائر مصالح الدولة العامة، وحسبما تقضي الأحوال والظروف وذلك في حدود المصلحة العامة للأمة, والمراد من الصرف لله وفي سبيل الله والوارد في سورة الحشر هو الصرف للمصلحة العامة وإنه يجب ملاحظة إن كل ما يصرف في المنافع العامة وفيما تقتضيه حاجات الأمة هو في سبيل الله.
وقال: ان خلاصة القول في السياسة الشرعية المالية أن الإسلام أقام الموارد المالية على أسس من العدل والرحمة والتوفيق بين المصلحة العامة والمصلحة الفردية وحدد شروط الأموال الواجب دفعها ومقدارها وأحكامها، وحدد مصاريف الإيرادات بحيث لا تؤثر على المصلحة الفردية ولا المصالح العامة وبحيث يجد ولاة الأمور سعة في تصرفاتهم في ضوء الظروف والأحوال.. في تحقيق الخير العام.
وحول المطلب الثالث:(عدالة التوزيع في الاقتصاد الإسلامي) أوضح الباحث قائلاً: تعتبر مشكلة التوزيع من أهم المشاكل التي حيرت الفكر الاقتصادي الوضعي. ويرجع السبب الرئيسي لمشكلة التوزيع إلى المشكلة الاقتصادية ذاتها. وقد أهتم مفكرو الاقتصاد بضرورة حلها، وقد زادت حدة المشكلة مع ظهور الثورة الصناعية حيث بدأ الاهتمام بالإنتاج على حساب التوزيع وما أدى إليه من الاهتمام بتحقيق الأرباح على حساب ظروف العمل، الأمر الذي أدى إلى الظلم الاجتماعي.
مؤكداً بأنه وفي الوقت المعاصر ارتبطت مشكلة التوزيع بفكرة حقوق الإنسان الاجتماعية والاقتصادية، وبدأ الاهتمام بالجانب الاجتماعي لفكرة التوزيع، ولكن هذا الاهتمام كان الغرض منه مجابهة مشكلة الانكماش في الأسواق هذا من جهة. ومن جهة ثانية، ففي الوقت المعاصر أسس الاقتصاد الرأسمالي التوزيع على آليات السوق، مع الاهتمام الهامشي بمشكلة الفقر، حيث تتضمن بعض الدساتير المعاصرة، انطلاقاً من ضرورة كفالة الحقوق الاقتصادية للإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية، على بعض النصوص المتعلقة بالحقوق الاقتصادية، وترجع أسباب زيادة مشكلة التوزيع، أسباب كثيرة منها: غياب أو صعوبة الاهتداء إلى معيار للتوزيع، والرغبة في تكوين الثروة الخاصة، والأثرة والأنانية الإنسانية، وقد واجه النظام الاقتصادي في الإسلام هذه المشاكل ووضع لها الحل المناسب وذلك عن طريق وضع مجموعة من الأسس تواجه قضية التوزيع من كافة جوانبها، وترتبط الحقوق الاقتصادية للإنسان، بعدالة التوزيع ارتباطاً وثيقاً، إذ من الأهمية بمكان، أن يكون النظام الاقتصادي في الدولة، قائما على عدالة التوزيع، ومراعياً العدالة الاجتماعية، حتى لا تكون هناك فجوات طبقية في المجتمع، تعصف بحقوق الأفراد وحرياتهم، وقد يقترن ذلك بالممارسة السياسية، فيسود الفساد؛ ولذا فالتشريع الاقتصادي الإسلامي، يحقق الخير العام الذي يحفظ للمجتمع توازنه، في إطار التوازن بين المصلحتين العامة والخاصة، حيث تعتبر الأسس العامة التي تحكم نظرية التوزيع في الاقتصاد الإسلامي بمثابة التطبيق العملي للمبادئ العامة للاقتصاد الإسلامي، حيث ترجع أصول نظرية التوزيع الإسلامية ـ كما أشرنا سابقاً ـ إلى الأصول العامة للاقتصاد الإسلامي، ويعتبر التوزيع من أهم الأدوات الفعالة للإبقاء على هذه الأصول، فالتوزيع في المفهوم الإسلامي له سياسته الخاصة، والتي تقوم على أن لكل فرد حد الكفاية، والذي يعد من المفاهيم المرنة، التي يتسع مضمونها كلما ازدادت الحياة العامة في المجتمع الإسلامي يسراً ورخاء لذلك يتعين على الدولة إشباع الحاجات الأساسية للفرد من مأكل وملبس ومسكن، وأن يكون إشباعها لهذه الحاجات كماً ونوعاً في مستوى الكفاية بالنسبة لظروف المجتمع الإسلامي وكذلك إشباع الحاجات غير الأساسية التي تدخل في مفهوم الكفاية تبعاً لارتفاع مستوى المعيشة.
وقال: ان للإسلام مفهومه الخاص تجاه عدالة التوزيع وتجاه هيكل التوزيع الذي يحقق تلك العدالة وتجاه أهمية التوزيع في عملية التنمية، فالتوزيع العادل يعنى المساواة الحسابية على مستوى أساسيات الحياة، والتفاوت المنضبط فيما فوقها. وهيكل التوزيع الإسلامي يحتوى على ثلاث مراحل هي: توزيع الموارد، توزيع الدخل على المباشرين لإنتاجه، وتوزيع الدخل على مستوى جميع الأفراد بما فيهم العاجزين عن الإنتاج. ثم أن التوزيع العادل في نظر الإسلام يعد ركنا من أركان التنمية، حيث التنمية الاقتصادية ـ في النظرية الإسلامية ـ تتطلب توافر قاعدتين هما: قاعدة الإنتاج وقاعدة التوزيع، وعلى هذا فالتوزيع العادل يعد أحد أركان التنمية الاقتصادية وترتيباً على ذلك فالتوزيع في الإسلام يتميز بأنه يهتم اهتماماً كبيراً بقاعدة عدم تداول الثروة في يد أقلية محدودة في المجتمع.
منوهاً بقوله: وبناءً عليه يتضح أن التوزيع في الاقتصاد الإسلامي تحكمه قاعدة عامة وهى أنه لابد وأن يكون لكل فرد في المجتمع حد من الدخل بصرف النظر عن دوره في تحقيق الناتج القومي، ومن جهة أخري، تحتوى نظرية التوزيع الإسلامية على جانب أخلاقي عظيم، قائم على الأخلاق الدينية، وهو أن التوزيع قد اعتمد معيار الحاجة كأساس للتوزيع في بعض الحالات، وهذا يتجلى في الزكاة والصدقات والكفارات والنذور، في الحالات التي يعجز فيها الأفراد عن العمل والكسب.
وحول المطلب الرابع:(مصادر الثروة ومراعاة الحاجات العامة في التشريع الاقتصادي الإسلامي) ذكر الباحث بقوله: أولاً: التنظيم الإسلامي لمصادر الثروة: عمل الإسلام على وضع الأسس الكفيلة بتحقيق التوازن والعدالة في توزيع مصادر الثروة، حيث وضع الأسس والآليات المناسبة لضمان حصول كل شخص على ما يخصه بحسب عمله في المقام الأول، ثم بحسب حاجته في المقام الثاني إذ لم يتوفر لديه عنصر العمل لظروف خاصة، حيث تدخل الإسلام في توزيع مصادر الإنتاج، وبوجه خاص الملكية لأن توزيع الملكية يخص المرحلة السابقة على قيام العملية الإنتاجية، حيث أن كل تفاوت في توزيع الملكية سيؤثر بالتبعية على التوزيع في مجال عوائد الإنتاج.
وقال: وقد تم تنظيم الملكية بمقتضى بعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ومن الآيات نذكر الآتي: قوله تعالى سبحانه:(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)، (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ)، (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ)، (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)، فالإسلام قد أقام نظام الملكية على مبدأ عام وهو:(أن المال مال الله والبشر مستخلفون فيه) ويتفرع عن ذلك قاعدتين هما:القاعدة الأولى: أن المال مال الله: وهذه القاعدة من أصول الاقتصاد الإسلامي وهى التي قامت عليها كل التشريعات الإسلامية في مجال الملكية. القاعدة الثانية: مال الله لخلق الله. وهذه القاعدة تشير إلى أن كل ما في الأرض قد خلق من أجل الإنسان، ومن ناحية أخرى أن الإسلام عندما أقر بصحة الملكية العامة والملكية الخاصة على أساس فكرة الاستخلاف فأنه لا يقر باعتداء أحداهما على الأخرى، ويناط بالملكية العامة تحقيق الأمور الآتية: إيجاد مصدر عام لتمويل النفقات العامة، التوازن الاجتماعي، فالملكية العامة تقوم بدور هام في تحقيق التوازن الاجتماعي لأنها بمثابة إجراء توزيعي يهدف إلى إشباع حاجات الفئات الفقيرة في المجتمع، ويؤكد هذه الوظيفة أن الإسلام يجعل يد الدولة على الملكية العامة بمثابة الوكيل والناس عن الجماعة، فالدولة لا تملك الأموال العامة، بل إنها تديرها نيابة عن الأمة، وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب:(من أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإن الله تبارك وتعالى جعلني له خازناً وقاسماً).
موضحاً بقوله: ان الإسلام لم يطلق يد الفرد في استعمال ملكه كيفما يشاء، بل وضع عليها القيود اللازمة لتوجيهها إلى الصالح العام والخاص، فمن ناحية، لم يقر الإسلام بشرعية الملكية الخاصة إلا بعد توافر الحد الأدنى للمعيشة (حد الكفاية) لكل فرد في المجتمع، وهذا مأخوذ من قول الرسول (صلى الله عليه وسلم):(إذا بات مؤمن جائعا فلا مال لأحد)، ومن ناحية أخرى، يجب أن يراعى المالك حقوق الله وحقوق العباد فيما يملك فالمالك يعد ملتزما بالوفاء بالواجبات الشرعية المقررة على ملكيته مثل: الزكاة والضرائب والالتزام بالإنفاق في سبيل الله وعدم الإضرار بحقوق الغير والالتزام بعدم التبذير ووجوب استثمار المال وتنميته على النحو المفيد في للمجتمع، وثانياً: حد الكفاية وتحقيق الخير العام: تعد الحاجة من الآليات المعتمدة للتوزيع الشخصي في الاقتصاد الإسلامي، وهذه الآلية تعتبر المميز الأساسي لنظرية التوزيع في الاقتصاد الإسلامي بالمقارنة بالاقتصاد الوضعي، والقاعدة التي قررها الإسلام في مجال الحياة الاجتماعية هي قيام كل فرد بالعمل على توفير الكفاية لنفسه، وهذا ما أكده الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) عندما قال:(لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس)، ولكن تثور مشكلة حد الكفاية والحاجة عندما يعجز الشخص عن سد حاجته بعمله لضعف في الجسم أو لظروف خاصة ففي هذه الحالة أدخل الإسلام ـ لعدالته الاجتماعية وأبعاده الأخلاقية السامية ـ معياراً آخر للتوزيع الشخصي للثروات وهو الحاجة، وترجم ذلك عن طريق إيجاب الزكاة والصدقات والنفقات الواجبة والتطوعية للعاجزين عن الكسب، وحد الكفاية من أهم ما جاء به الإسلام في مجال التنظيم الاقتصادي، ويقصد بحد الكفاية ـ وهو الذي يقابل معنى الضمان الاجتماعي:(ضمان الحد اللائق لمعيشة كل فرد مما عبر عنه رجال الفقه الإسلامي باصطلاح حد الكفاية، فهو ضمان المستوى اللائق للمعيشة بحسب ظروف الزمان والمكان، والواجب توافره لكل من يتواجد في مجتمع إسلامي أيا كانت ديانته وأيا كانت جنسيته وهو ما يوفره لنفسه بجهده وعمله، فأن عجز عن ذلك بسب خارج عن إرادته كمرض أو شيخوخة انتقلت مسئوليته إلى بيت مال المسلمين أي خزانة الدولة).
.. وللموضوع بقية.