[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/alibadwan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي بدوان[/author]



علي بدوان
كاتب فلسطيني ـ دمشق

قصة قرية (العراقيب) الواقعة في منطقة النقب داخل حدود العام 1948 في فلسطين تستحق التبجيل والاحترام والتقدير. كما تَسَتحِق رفع الكوفية لها، حيث صَمَدَت هذه القرية الفلسطينية البدوية للمرة المائة في وجه محاولات تدميرها واجتثاثها ومحوها عن الخريطة، وتشريد مواطنيها وسكانها الأصليين وبعثرتهم تحت دعاوى مُختلفة، وذلك في سياق الحملات الاستيطانية الكولونيالية ومشاريع تهويد النقب والجليل، وهي حملات ليست بالجديدة بل ابتدأت عمليًّا منذ العام 1976، وفي حينها انفجر الموقف الشعبي الفلسطيني في يوم الأرض الخالد دفاعًا عن الأرض داخل حدود العام 1948 في الجليل والمثلث والنقب والساحل. وبرزت في الوقت نفسه خصوصية المجتمع الفلسطيني داخل حدود العام 1948، حيث واجه الفلسطينيون في الداخل سياسات التضييق عليهم، ومصادرة الأرض، وطمس هويتهم الوطنية من خلال ما يسمى بمحاولات "الأسرلة" في شتى المجــالات، والتي حاولت، أن تهضم هذا المجموع العــربي، وتجعله جماعة اثنية هامشية، في إطار دولة تعتبر نفسها دولة اليهود وحدهم، وتسود فيها الصهيونية كأيديولوجيا، وكثقافـــــة ومؤسسات.
قرية (العراقيب) تقع على بعد حوالي (110) كيلومترات جنوب مدينة القدس، وتُعَد واحدة من (51) قرية بدوية عربية فلسطينية في منطقة النقب لا تعترف "إسرائيل" بها, ويقطنها نحو (100) ألف عربي من بدو النقب، يعيش في أصغرها (500) نسمة، وفي أكبرها أكثر من (4500) نسمة، وتستهدفها بشكلٍ مُستمر سياسات الاحتلال بالهدم وتشريد أهلها منذ سنوات طويلة في سياق مشروع تهويد النقب والجليل وخلخلة الوجود السكاني العربي فيه، بينما تُشَرّع بشكلٍ مُستمر بناء التجمعات والكتل الاستيطانية لصالح اليهود في منطقة النقب والجليل، كما في مشاريع إقامة البنى التحتية العائدة للجيش "الإسرائيلي" كالمطارات والقواعد العسكرية وغيرها.
في محاولة التدمير الأخيرة لقرية العراقيب، والتي وقعت نهاية شهر تموز/يويو الماضي 2016، انسحبت جرافات وبلدوزرات الاحتلال من قرية العراقيب، بعد مواجهات مباشرة مع مواطني وأبناء القرية، الذين تصدوا لها بأجسادهم، وبإرادتهم، ومعهم أفواج من المتضامنين من أبناء الداخل الفلسطيني الذين وصلوا لمنطقة النقب والعراقيب دفاعًا عنها وعن مواطنيها، بمن فيهم بعض النواب العرب من أعضاء الكنيست "الإسرائيلي"، النواب المُهددين بقوانين الإقصاء والعزل.
إنها المرة المائة، التي تُحاول فيها السلطات "الإسرائيلية" وبالقوة ما أمكن، من الاستيلاء على الجزء المُتبقي أصلًا من قرية العراقيب، وهي نحو 1300 دونم من الأرض التي تعود لأصحابها الأصليين، بعد أن كانت السلطات "الإسرائيلية" قد فشلت بالسيطرة عليها في العام 2011 بعد أن صدهم أصحاب الأرض الأصليون، وبفعل التضامن الكبير الذي جرى مع أبناء القرية من عموم فلسطينيي الداخل، وفلسطينيي الضفة الغربية والقدس والقطاع.
انسحبت آليات وبلدوزرات التجريف والتدمير "الإسرائيلية" الصهيونية في المرة المائة لمحاولة اجتثاث قرية العراقيب، بعد سبعة أيام قامت خلالها بتنفيذ عمليات التجريف والتحريش في أراضي القرية، بحماية الشرطة ووحدة (يوآب) التابعة لاستخبارات "الجيش الإسرائيلي" ووحدات الأمن العام الداخلي (الشاباك)، فكان انسحابها هزيمة جديدة بعد مائة محاولة لتجريف القرية.
وهنا، علينا أن نُشير بأن الممارسات "الإسرائيلية" الصهيونية التي وقعت بحق أبناء النقب ومنطقة النقب طوال العقود التي تلت النكبة، ساهمت بطرد نحو (80%) من مواطني تلك المنطقة من أراضيهم، بينما تم وضع البقية في مناطق عسكرية صُمّمت خصيصًا لهم، وتشكّل نحو (10%) من أراضيهم، فقد كانوا يملكون أساسًا نحو (12) مليون و(750) ألف دونم ولكن لم يتبقَّ بيدهم سوى (850) ألف دونم بعد مصادرة الباقي، والبعض لا يزال يسكن على أراضيه المصادرة. علمًا أن مساحة منطقة بادية النقب تُشكّل حوالي (٤٠%) من مساحة أرض فلسطين التاريخية، وتبلغ مساحتها نحو (١٢) ألفا و577 كلم٢، ويقطنها قرابة مائتي ألف عربي (من الفلسطينيين البدو وغير البدو).
إن ما تبقى من بدو فلسطين باتوا يُشكّلون نحو (12%) من أبناء فلسطين داخل حدود العام 1948، وتحديدًا نحو (160) ألف نسمة من أصل نحو (1,3) مليون نسمة من أبناء فلسطين المتجذرين داخل الأرض المحتلة عام 1948، والمتوقع أن تصل أعدادهم إلى نحو (30%) من عدد سكان "إسرائيل" بحلول العام 2025. ويقيم غالبية بدو فلسطين من الذين تبقوا داخل حدود العام 1948 في منطقة النقب، وبشكلٍ أقل في منطقة الجليل الأعلى والشرقي شمال فلسطين، الذين استقروا فوق أرض وطنهم التاريخي كمجموعة سكانية مُتنقلة ضمن حدود أراضيهم المعروفة في بادية النقب جنوب فلسطين، ومناطق الجليل شمال فلسطين، ومنطقة الأغوار.
لقد قامت سلطات الاحتلال، ووفقًا لاستراتيجية القضم التدريجي، بمصادرة وقضم مساحات مُتزايدة وبالتدريج من أراضي الفلسطينيين البدو من أجل تطوير ما أسمته "المجتمع اليهودي"، فيما استطاعت حتى الآن حشر نحو (56%) من بدو النقب في سبع بلدات أقامتها لهم وهي بلدات: رهط، حورا، تل السبع، لقية، شقيب السلام، كسيفة، وعرعرة النقب. علمًا أن البلدات المُشار إليها تفتقر إلى البنية التحتيّة الملائمة أصلا، كما تحصل على خدمات حكومية غير كافية، شأنها شأن باقي القرى والبلدات العربية داخل "إسرائيل".
إن مأثرة قرية العراقيب العربية الفلسطينية البدوية داخل حدود العام 1948، وصمود مواطنيها، أنها تحوّلت إلى مثالٍ ساطع في المقاومة الشعبية وأهميتها وجدواها، وفي الثبات والتمسك بأرض الآباء والأجداد في مواجهة كل جرائم الهدم وتجريف الأرض وتحريشها والاعتداءات المُتواصلة عليها من قبل السلطات "الإسرائيلية" لبعثرة سكانها ومحوها عن الخريطة، وإحداث التغيير الديمغرافي المُتتالي في منطقة النقب كما في منطقة الجليل في الشمال الفلسطيني المحتل عام 1948.
قرية العراقيب، تَرسُمُ على الأرض قصة البقاء على أرض الوطن، كخيار وحيد أمام فلسطينيي الداخل الذين واجهوا عمليات "الأسرلة" طوال العقود التالية من نكبة فلسطين، وأثبتوا في نهاية المطاف أنهم جزء لا يتجزأ من الشعب العربي الفلسطيني، وجزء أصيل من حركته الوطنية وإن اختلفت خصوصيات الوضع الذي يحيط بهم داخل "إسرائيل".