”يبدو أن العالم سيشهد في المستقبل وفق العديد من المتنبئين والمبصرين زمناً جديداً ستتغير فيه مفاهيم مثل الثقافة، المعرفة، المعلومات، الإبداع، ليكون المقبل مختلفاً حيث إن الثقافة السمعية تميت العقل، وتحول الشخص إلى جهاز تسجيل ينقل ما يسمعه دون أن يدري أن ما يسمعه هو الحقيقة إنها ثقافة الجاهل، تلك الثقافة السمعية المدمرة للعقول ومدمرة للمجتمع.”
ــــــــــــــــــــــــــــ
تعتبر أحاديث المشافهة الكلامية من أقدم وسائل التواصل بين البشر، والأكثر التصاقًا باللغة المنطوقة أو الحركية التي تصدر من الناس كونها الأداة المنفردة لنقل الحديث، وكان تأثيرها على البشر قويًّا حتى مع ظهور وسائل الكتابة المختلفة، وإن ما يتلقاه الشخص من ثقافة وعلم عن طريق السماع دون القراءة والإطلاع هي الصفة السائدة عند الأغلبية بل والشريحة الكبرى تطغي على ثقافتهم السمعية التي تعتمد على المطالعة.
إن ثقافة المجتمع السمعي يعرف الكثير من الأخبار والمعلومات التي يتلقفها من بعضه والمنقول بالكلام، وكل عباراته تبدأ غالبًا بكلمة سمعت، فتلك الثقافة السمعية التي تتلقى الكلمات سماعيًّا وتنقلها شفهيًّا هي غير موثقة تماماً لأنها قابلة لاحتمال الخطأ والصواب، ولمعرفة إن كانت المعلومة صحيحة أم لم تكن يتم التحقق من ذلك من خلال القراءة تلك الثقافة المكتوبة التي تقرأ ويتم التساؤل للتأكد وإنهاء حالة الشك باليقين.
لا ننكر أن الثقافة السمعية منتشرة أكثر من القراءة، وتراجع مكانة القراءة والإطلاع وتغلغل الفكر الغيبي وضعف الثقافة رسخت مبدأ اتخاذ الثقافة السمعية دليلاً قاطعاً لصحة ما يقال، أصبحت المسيطرة على شريحة كبيرة من المجتمع خاصة لأنها الأسهل لكن هذا لا يمنع من الاستفادة من الكتب حيث يستفيد منها الشخص بشكل أفضل.
ليس المقصود هنا الكتب المقروءة التي تحولت إلى مسموعة للتغلب على مشكلة من لا تخدمه الظروف للقراءة المباشرة، فالثقافة السمعية هنا مهمة جداً لناحية الاستفادة من الوقت الذي لا يمكن القراءة فيه وإنما المقصود بالثقافة السمعية هنا ذلك الكلام المسموع الذي يفتقر إلى الدقة ودون التأكد من المصدر ومدى صحته والثقة به، حيث إن من السهل أن تضاف أو تنقص الكلمات عندما تكون شفهية غير مكتوبة.
أمام هذا الكم الهائل من التلقي وأمام مشهد عصر انفجار المعلومات الذي أصبحت فيه المعلومات على قارعة الطريق، والذي بات الانفتاح اللحظي على العالم وعلى خلفيات الأشياء متاحاً للجميع، بالإضافة إلى غياب الجهد البحثي، ما زالت الثقافة السمعية هي السائدة، بل إن تأملاً سريعاً، بدوره، لا بد أن يبرز أن هذا العصر الذي تتسم فيه المعلومات بالسيولة، هو نفسه عصر عدم القدرة على وضع الاستفادة من هذه المعلومات بأساليب علمية، والأهم من ذلك سيادة المعلومة اللحظية سريعة الاستخدام والزوال في آن، والمعلومة المجردة التي لا تحض التفكير على البحث عن الأسباب وتصور السيناريوهات المقبلة، إن الكتب والآراء موجودة في كل المواضيع بكل اللغات فابحث بنفسك واقرأ.
يبدو أن العالم سيشهد في المستقبل وفق العديد من المتنبئين والمبصرين زمناً جديداً ستتغير فيه مفاهيم مثل الثقافة، المعرفة، المعلومات، الإبداع، ليكون المقبل مختلفاً حيث إن الثقافة السمعية تميت العقل، وتحول الشخص إلى جهاز تسجيل ينقل ما يسمعه دون أن يدري أن ما يسمعه هو الحقيقة إنها ثقافة الجاهل، تلك الثقافة السمعية المدمرة للعقول ومدمرة للمجتمع. وكما قال عليّ بن أبي طالب (ع) :« همة العاقل الدراية، وهمة الجاهل الرواية » والسؤال لماذا لا يبني الفرد معرفته على أسس سليمة عبر البحث والمقارنة، والرجوع إلى أمهات الكتب، وعندما يتكلم لا بدَّ أن يعي أن لا يقولُ ولا ينقـلُ إلاَّ صدقًا، وإذا تكلم يكن منتبهاً في كلامهِ، دقيقًا في عباراتهِ، حتى لا يفهمَ عنهُ الكلامُ على غير حقيقته حتى لا تختلط الأوراق والمفاهيم وتنتشر الشائعات.

سهيلة غلوم حسين
كاتبة كويتية

[email protected] انستقرام suhaila.g.h تويتر suhailagh1