[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
” .. للفساد ألوان شتى وصيغ وأشكال لا حصر لها ويتدرج الإنسان في إطار ممارساته لأوجه الفساد عابرا مراحل من التطور والنمو والانتشار إلى أن يبلغ أقصاه ومنتهاه من حيث التجاوزات التي تبدو في مراحلها الأولى محدودة وهامشية وغير مرئية فتكبر شيئا فشيئا إلى أن تتخطى جميع المراحل وتتجاوز الخطوط الحمراء ضاربة بعرض الحائط القيم والقوانين والأعراف ومصالح الناس وحياتهم”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثامنا: بيانات الغش والفساد وحيرة المواطن وتساؤلاته :
شكل موضوع الفساد حيزا مهما في مناهجنا الدراسية وفي قراءاتنا المستقلة لكتب التاريخ وفتراته الفاصلة نهوضا وانتاجا وقوة أو انهيارا وتمزقا وتخلفا مما يصلح للعبرة واستلهام الدروس، لما للفساد من تأثير بالغ ومنطلق أساسي لنشوء وتضخم الأسباب والعوامل الرئيسية المؤدية إلى سقوط الحضارات وتمزق الدول وقيام الثورات ونشوء حالات عدم الاستقرار وغياب الأمن وتكون وتراكم واتساع غضب الشعوب وضياع الحقوق وتقسيم المجتمعات إلى شرائح وفئات ... وللفساد ألوان شتى وصيغ وأشكال لا حصر لها ويتدرج الإنسان في إطار ممارساته لأوجه الفساد عابرا مراحل من التطور والنمو والانتشار إلى أن يبلغ أقصاه ومنتهاه من حيث التجاوزات التي تبدو في مراحلها الأولى محدودة وهامشية وغير مرئية فتكبر شيئا فشيئا إلى أن تتخطى جميع المراحل وتتجاوز الخطوط الحمراء ضاربة بعرض الحائط القيم والقوانين والأعراف ومصالح الناس وحياتهم في مشربهم ومأكلهم وكرامتهم الإنسانية، والتطاول على النظام العام وتجاوزه، إلى أن يصبح النظام برمته أسيرا لقادة ومافيا الفساد، ومع بلوغه قمة الهرم قد يتحول إلى أثر عكسي فمن خلال ثورة المجتمع على الفساد يصبح عاملا مهما للنهوض والتغيير والإصلاح ونشوء حكم رشيد قوامه القانون وتحقيق العدالة وإقامة دولة المؤسسات وتعزيز قيم الحرية والمساواة وتعظيم مكتسبات الإنسان وعلى رأسها الحقوق التي تنص عليها وتنظمها وتحافظ عليها وتحميها الدساتير وما يتفرع عنها من قوانين وأنظمة، وهي قيم تجسدت بقوة في عصر الرسول والراشدين من بعده وعلى فترات تاريخية معروفة، (وإن لم تتحقق في إطار منظومة متكاملة كما هو الوضع أو الحال في ظل الدولة الحديثة ذات النظام الديمقراطي)، وقد ترسخت تلك القيم في مخيلة الناس وفي الكثير من القصص والأمثلة المتداولة عبر الألسن والكتابات المتعددة وفق صياغات أدبية تدعو إلى التأمل وتفضي إلى التحبب والتوق إلى حياة خالية من الفساد والغش والممارسات المشينة التي من شأنها التطاول على القوانين وعلى حقوق الإنسان، حياة تضرب فيها يد المفسد بقوة واقتدار فتلجم النفوس الجشعة وتوقف الممارسات البشعة، حياة مزدهرة بقيم الفضيلة والعدالة والمساواة وصيانة الحقوق وحماية النفس البشرية من أي فعل أو عمل أو ممارسة قد تتسبب في إلحاق الضرر أو استهدافها فتحقيق ذلك من شأنه أن يوفر الأمن والاستقرار والحماية للوطن والمواطن وإعلاء المصالح العامة على الخاصة. لقد ظلت ملفات الغش والفساد حديث المجتمع ومركز تفكيره ومبلغ اهتمامه، لا ينفك يتحدث ويقدم الأمثلة والقصص والمشاهد عن تعطيل القوانين وتأخير صدورها والاستيلاء على الأراضي الشاسعة في المواقع الاستراتيجية بمختلف الطرق والوسائل، وتعظيم المنافع والامتيازات والفوائد من خلال المشاريع والاتفاقيات والمناقصات الحكومية وإقامة وتوسعة الأعمال الخاصة التي تعتمد في توسعها ونموها على المشاريع الحكومية ذاتها، وعن احتكار بضعة أفراد للسوق والتحكم من ثم في الأسعار وعن الغش التجاري والممارسات غير المشروعة، وكانت القناعات مترسخة عند الكثيرين بتفشي وتضخم صور الغش والفساد وبخطورة الوضع وتفاقمه إلا أن كل ذلك لم يخرج عن إطار الأقوال وسرد القصص والاستناد إلى مؤشرات لم تصل بعد إلى مستوى اليقين مما حدا بالقلة إلى ترجيح الرأي القائل بأن ذلك الزخم الهائل من الأقاويل ما هي في معظمها إلا إشاعات مغرضة لا قيمة لها يطلقها أشخاص يعانون من الفراغ والأمراض النفسية تحركهم الأهواء وأهداف ترتبط بأطراف وأيديولوجيات وتصورات وهي ذاتها تفتقر إلى الحجج والدلائل، أما الفساد في صورته الطبيعية فلا شك أنه موجود ويعترف به الجميع، وعمان ليست استثناء من قاعدته. وفي حصيلة مقالاتي الأسبوعية لوحدها الكثير مما خصص لتناول الفساد متضمنة الكثير من المؤشرات والدلائل والمشاهد ومحذرة من العواقب والمخاطر، ومع كل مقال أكتبه أو بعد نشره مباشرة، كنت على يقين بأنها إلى جانب البرامج والتحقيقات الصحفية وغيرها أشبه بنعيق في قلب صحراء شاسعة لا يسمعها ولا يعيرها أحد اهتماما، فالقافلة تسير والطيور تطير بأرزاقها والمواطن متكل على مؤسسات تحميه فمن سيشغل نفسه بمقال وما أكثر المقالات والتقارير الصحفية؟ .. وبغض النظر عن موقع الحقيقة وموقفها ومع أي طرف ستصبح في نهاية المطاف إلا أن الجميع كانوا على اتفاق وفي حال من الاطمئنان على سلامة الأطعمة والأشربة والأدوية التي يتناولونها ويقدمونها لأطفالهم وأسرهم، ومتيقنون بأنها في معزل عن كل فساد وغش، فعيون القائمين على الحماية مفتوحة والقوانين رادعة وحياة المواطن وصحته وما يأكله خط أحمر لن يسمح بالاقتراب منه أيا كانت مكانة ومنزلة ودرجة من تسول له العبث والإفساد، والجهات المختصة بمختلف أجهزتها ووسائلها وموظفيها ومفتشيها ومسئوليها يؤدون واجباتهم التي تستحق الشكر والتقدير والتشجيع، ويقومون بمسئولياتهم التي تتطلب التكريم في حماية المجتمع من السلع المغشوشة والمنتهية الصلاحية أو التي تحمل مكونات أو عناصر مضرة قد تفتك بالجسم البشري أو تؤدي إلى أمراض خطيرة ... ولكن وعلى حين غرة وبدون مقدمات وعبر أربع سنوات متواصلة مضت، يستيقظ المواطن على سلسلة مروعة من البيانات والتصريحات الرسمية شبه اليومية التي تقدمها وتنشرها وتدلي بها هيئة حماية المستهلك ورئيسها في وسائل الإعلام عن اكتشاف آلاف السلع وعشرات المخازن ومئات المحلات والمؤسسات ومنافذ التسوق وغيرها وفي طول البلاد وعرضها من الدواء مرورا بحلويات الأطفال وليس انتهاء بالأرز والطحين والسمك واللحوم ومياه الشرب وأصناف الأكل التي تقدمها عدد من المطاعم التي تعرضت على مرور الأيام الماضية وتتعرض حاليًّا للغش التجاري والتخزين السيء والعبث بمدد الانتهاء ... وأن في بلادنا من يتخصص في توزيع وتسويق وبيع سلع ومواد استهلاكية فاسدة، ليس فردا واحدا ولا مؤسسة بعينها ولا موقعا يتيما ولا مخزنا استثنائيا، ولا سلعة واحدة أو اثنتين، إن تلك البيانات والتصريحات وما تتضمنه من أرقام ومؤشرات وأنواع للسلع وطرق وأساليب الغش أشبه بأن تكون مافيا متغلغلة في أوصال المجتمع وشرايينه متحكمة في أسواقه ومصادر رزقه ومأكله ومشربه ... نعم لقد - استيقظ المواطن على سلسلة مروعة من البيانات والتصريحات الرسمية - التي تعكر الأمزجة وتؤلم أصحاب الضمائر الحية وترعب البسطاء من الناس وتخيف المجتمع من شرور قادمة لا سمح الله، وقد توجه الكثير من الحسابات والقراءات والتحليلات السابقة إلى مسارات أخرى .. ومعها عشرات الأسئلة المشروعة التي يطرحها المواطن: أين يبدأ الفساد والغش والاستغلال في بلاده وأين ينتهي؟ هل كان طعامه ودواؤه وما يشربه من سوائل متعددة فاسدا مغشوشا أم أن البعض منه كان فاسدا والآخر لم تصل إليه يد الغش والفساد بعد، أو أنه كان محظوظا محفوفا برعاية الله هو وأسرته من كل فاسد غشاش فلم يصل إلى جوفهم طعام فاسد؟ ما يوجد في ثلاجته ومخزن مطبخه من الأطعمة والأشربة هل هي فاسدة أم صالحة؟ وكيف له أن يتيقن من ذلك، وأن يتأكد بأن تلك القصاصة التي سجلت عليها صلاحية البضاعة حقيقية وغير مزورة؟ في ظل أن من يقوم بذلك العمل الآثم هم محترفون متخصصون، هل يوجد ارتباط وصلة بين نسب الأمراض المتصاعدة من سرطانات وأوبئة تصيب أجهزة الكلى والكبد وغيرها وبين الأطعمة الفاسدة والمغشوشة؟ أنى له أن يصل إلى الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها؟ أين تلك المؤسسات الحكومية ومسئوليها الذين طالما تغنوا بوطنيتهم وبحرصهم على مصالح المواطن وبالسهر على راحته وحمايته من كل خطر عن هذه المخازن والسلع والغش الهائل والفساد المستشري الذي يجتاح الأسواق ويثري من هم وراءه على حساب صحتنا وحياتنا وغفلتنا؟ أين هم هؤلاء التجار أو (الهوامير) ممن عبثوا بقيمنا وأعرافنا وقوانيننا وأخلاقنا وأجرموا بحق المواطن المسكين؟ أين هم عن المحاكم والمحاكمات والعقوبات؟ لماذا لم نر صورهم في وسائل الإعلام؟ هل هم بضعة أفراد معزولين عن الامتداد والعمق والحماية أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟ هل قانون حماية المستهلك الجديد وجميع القوانين قادرة على حماية المجتمع من الغش والفساد والاستغلال؟ ومع هذه الأسئلة تتناسل عشرات الأسئلة الأخرى التي لا تقل أهمية وعمقا عن سابقاتها وترتبط جميعها بهذا الموضوع وهمومه ومصائبه التي يبدو وكأن نتائجها وأخبارها تأتي وتظهر بما يتجاوز ما وقر في مخيلة المواطن .. لقد انبرت الأقلام تتحدث عن الوضع الذي كشفت عن وجهه القبيح هيئة حماية المستهلك، وعبر المواطن عن الاستياء والإحباط والغضب بعد أن علم بأنه مستهدف في لقمة عيشه التي يجني منها الفاسدون والغشاشون الملايين من الريالات، وانتشرت المقالات والتعليقات الجادة منها والساخرة في مواقع التواصل وعبر الهواتف النقالة، ومنها ذلك المقطع لمواطن عماني كبير في السن يتحدث فيه ضمن لقاء تم معه قبل سنوات في برنامج (في دائرة الضوء) عن الغلاء الفاحش وعن مئات المخازن التي يتحكم فيها أصحابها بالسوق وعن الغش والاستغلال والاثراء على حساب البسطاء .. وكان تعليق من استمع إلى هذا اللقاء (هذا الشايب تحدث قبل عدة سنوات فلم يهتم أحد لكلامه وتحذيراته، والآن يصبح كلامه صحيحا وواقعا)، أليس من حق المواطن بعد الآن أن يصدق كل ما يسمع وما يطرح ويقال، وألا يلام ان تزعزعت ثقته في مؤسساته وفي المسئولين عنها، وأن يتأفف ويسخر من كل الشعارات التي تطرح فالنتائج والحقائق ماثلة للعيان ولا تحتاج إلى دليل أو برهان بعد أن وضعت هيئة حماية المستهلك النقاط فوق الحروف. نسأل الله السلامة من كل شر، وأن يحفظ بلادنا ومجتمعنا من كل سوء وأن يديم عليها نعمة الأمن والاستقرار.

[email protected]