[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/khamis.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]خميس التوبي[/author]
على الرغم مما تمخض عنه لقاء وزيري الخارجية الروسي سيرجي لافروف وجون كيري في جنيف من نتائج وفق مؤتمرهما الصحفي الذي عقداه بُعيْدَ اللقاء، ورغم ما سكب على وسائل الإعلام من تعليقات مستفيضة بشأن هذه النتائج، فإن طريق الحل السياسي للأزمة السورية لا يبدو معبَّدًا أميركيًّا بعد لا بالأفعال ولا حتى بالنيات الحسنة، فلا تزال أمام الولايات المتحدة رهانات وحسابات كثيرة تعمل على توخيها وتحقيق أهدافها، وتواصل المزاوجة بين بدع الضلال والموبقات وانتهاك كل المحرمات والمحظورات وصولًا إلى مبتغاها الذي هو عبارة عن سلة أهداف استراتيجية تخدم مصالحها في المنطقة ومصالح حليفها الاستراتيجي كيان الاحتلال الصهيوني وتموضعه الجديد وضمان ذلك.
هذه المزاوجة تبدو اليوم في أوضح تجلياتها وصورها في بدعة ما دأبت واشنطن على تصنيفه "إرهابًا معتدلًا" و"إرهابًا متطرفًا"، وفي العبث بالنسيج الاجتماعي السوري، ومحاولة تمزيقه باقتطاع المكون الكردي وفصله والذي يعد أحد أعصاب هذا النسيج، حيث أخذت واشنطن تضاعف هذه المزاوجة العبثية خاصة بعد المستجدات التي فرضها الجيش العربي السوري وحلفاؤه، سواء في المدينة الأهم وهي مدينة حلب الشهباء الصامدة، أو في الغوطة أو في درعا أو أخيرًا في منطقة داريا بريف دمشق، أو في ضوء التموضع التركي الجديد بعد الانقلاب الفاشل والذي أخذ يرسم مسارًا نحو استدارة أو نصف استدارة أجبرت أنقرة عليها الموبقة الأميركية بالانتقال إلى ما أعلنه وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن الخطة "ب" في سوريا والتي بدت تفاصيلها في تمزيق سوريا بداية من مكونات نسيجها الاجتماعي والاستفراد بالأكراد ودغدغة مشاعرهم بأحلام الانفصال وقيام كيان كردي مستقل في شمال سوريا وعلى حدود تركيا، وهو ما عدته أنقرة خطًّا أحمر وتهديدًا لأمنها القومي.
في تفاصيل المشهد السوري وعلى خلفية الانتهاك التركي العسكري للسيادة السورية في مدينة جرابلس في الشمال، والإنجازات الميدانية للجيش العربي السوري وحلفائه وتحديدًا في حلب، يمكن الوقوف على حقيقة المزاوجة الأميركية العابثة في سوريا عبر ركنيها وهما:
الأول: بدعة الإرهاب المعتدل والموصوف أميركيًّا بـ"المعارضة المعتدلة"، حيث أخذت هذه البدعة الأميركية الضالة والمضلة مساحة كبيرة من الزمن والحديث دون أن يكون لها أي أساس حقيقي على الأرض، وكل ما هنالك مجرد تصريحات وأحاديث أميركية ـ غربية عارية عن مستنداتها الصحيحة. ومنذ ابتداع الولايات المتحدة هذه البدعة وحتى لقاء لافروف ـ كيري في جنيف الجمعة الماضية (26/8/2016) ظلت موسكو تطالب واشنطن بأسماء وأماكن وجود هذه "المعارضة المعتدلة" /الإرهاب المعتدل، وكذلك بفصل "المعتدلة عن المتطرفة"، ولكن هيهات، لدرجة أن موسكو عبَّرت عن نفاد صبرها من المماطلة الأميركية حيال ذلك. وما يؤكد حقيقة عدم وجود ما يسمى "معارضة معتدلة" هو إعلان لافروف في المؤتمر الصحفي مع كيري بُعيْدَ لقائهما أنه تسلم "اليوم" قائمة بأسماء مجموعات "المعارضة المعتدلة". والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تم تسليم لافروف القائمة الآن؟ وما الأسباب التي عجلت بذلك؟
دون شك، إنه الاجتياح العسكري التركي للأراضي السورية، حيث أخذت عملية التسليم والتسلم مفاعيلها على الأرض وبصورة مسرحية واضحة بين أنقرة وتنظيم "داعش" في مدينة جرابلس، وذلك بقيام أنقرة بنقل التنظيمات الإرهابية التي رعتها ودعمتها مثل "أحرار الشام وفيلق الشام ونور الدين زنكي والسلطان مراد" وغيرها بعدما قامت بتجميعها في إدلب ونقلها مع عربات الجيش التركي ومدرعاته إلى جرابلس وإحلالها محل "داعش" الذي غادرت عناصره الإرهابية باتجاه تركيا والرقة، وعملية التسليم والتسلم وحدها كافية لتبيان حجم العلاقة والترابط بين حكومة العدالة والتنمية وتنظيم "داعش" الإرهابي. فهذه التنظيمات الإرهابية التابعة لأنقرة ـ التي تعد إحدى القوى المكونة لمعسكر التآمر والعدوان على سوريا ـ وبعد تنسيق واشنطن معها ـ وكما يبدو ـ تم التفاهم على تسميتها بأنها "الجيش الحر" "المعارضة المعتدلة"، وهذا فصل من فصول مسرحية عملية التسليم والتسلم.
الثاني: الموبقة الأميركية بتمزيق النسيج الاجتماعي عبر فصل المكون الكردي بتلميع أحلام الانفصال في إطار إقليم كردي مستقل شمال سوريا يكون قابلًا للتمدد مع شمال العراق وجنوب تركيا، مقابل التبعية والولاء للولايات المتحدة وخدمة العلم الأميركي بتنفيذ الإملاءات الأميركية في لعبة تعميق الشرخ المجتمعي، ومباشرة الأكراد تأزيم الأوضاع داخل سوريا لضرب عصفورين بحجر واحد، بتشتيت جهود الجيش العربي السوري الذي كان الرهان الأميركي ـ الكردي يتجه نحو إجباره على نقل جزء من قواته من حلب أو من الغوطة إلى الحسكة شمال سوريا لردع الأكراد المتمردين الساعين للانفصال، بما يسمح بمتغير ما في حلب يُمكِّن التنظيمات الإرهابية المحاصرة في ريفها الشرقي من فك الحصار، وكذلك بالمباشرة الفعلية في فصل الحسكة عن الوطن السوري الأم. غير أن التموضع التركي الجديد فرض معادلة جديدة بأنْ وضَعَ الولايات المتحدة أمام خيارين؛ إما أن تكون مع تركيا، وإما أن تكون مع الأكراد والمعارض عبدالله جولن المتهم بتنظيم الانقلاب الفاشل. وفي الحقيقة تعلم واشنطن أن تخليها عن تركيا واختيارها الأكراد يعني اتجاه تركيا إلى الحضن الروسي ـ الإيراني، وهو ما لا يخدم المخططات الصهيو ـ أميركية في المنطقة. لكن ما لا يعلمه الأكراد هو أن "المتغطي بأميركا عريان" ـ كما قال مصطفى الفقي رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب المصري أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير ضد الرئيس المعزول محمد حسني مبارك. وأن التبني الأميركي لهم (الأكراد) ليس عشقًا فيهم، وإنما هو لاستخدامهم وقودًا إضافيًّا في الحريق الإرهابي الذي تقوده الولايات المتحدة ممثلة في إدارة الرئيس باراك أوباما ضد سوريا، وتعتزم توظيف دمائهم في معركة الرقة القادمة لتصنع منهم انتصارًا يعزز موقع المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في السباق الرئاسي. ولعل التخلي الأميركي عنهم في مواجهة تركيا وإجبارهم على عدم التقدم إلى شرق الفرات أبلغ دليل على ما قلناه، وبالتالي ما ارتكبه الأكراد بحق أنفسهم وبحق وطنهم سوريا هو خطأ قاتل وفادح لا تغسله كل ما يسميه الأكراد المظلوميات لا قديمها ولا جديدها؛ ولذلك تبدو الفرصة مواتية للاستدارة إلى حضن الوطن وإلى ما قبل العبث الأميركي بسوريا؛ لأن المواجهة الكردية مع تركيا قد تترتب عليه نتائج أفدح وأقتل.

[email protected]